هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

589: الوطن بين حفظ الأمس ومحفظة المستقبل

الوطن بين حفظ الأمس ومحفظة المستقبل
السبت 21 آذار 2009
– 589 –
عن “هيرالد تريبيون” أن متحف “نيوس” في برلين فَتح أبوابه (في 6-7-8 آذار الجاري) إيذاناً بِمباشرة ترميمه (لا يزال جُدراناً عاريةً وقاعاتٍ فارغةً وواجهاتٍ مدمَّرةً جُزئياً أو كلياً) فدخله في تلك الثلاثة الأيام 35 ألف مواطن وسائح وقفوا ساعاتٍ طويلةً صفاً منتظماً بلغ نصف ميل في طقس شديد الصقيع، ما سوى كي يدخلوه ويتذكّروا أو يعتبروا كيف صار بعدما دمرتْه مدافع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (23 تشرين الثاني 1943 و20 شباط 1945)، وقبل أن يبدأ ترميمه قريباً ويتم افتتاحه في تشرين الأول المقبل (2009) .
عن عمدة برلين أنّ القصد من تلك التجربة: اختبار مدى تعلُّق الألمان (والبرلينيين تَحديداً) بتراثهم الفني وذاكرتِهم الإبداعية عن هذا المتحف الذي كان يضمُّ روائع التحف المصرية (في طليعتها رأس نفرتيتي وأعمال نَحتيّة أخرى من عصر الملك أخناتون) وتُحفاً قديمةً نادرة ترقى الى العصر الحجري وعصور ما قبل التاريخ، وآثاراً ثَمينةً من المُتحَفَين الآخَرَين في المدينة.
أهمية هذا الْمَعْلَم الثقافي في قلب برلين أنه وسط “جزيرة المتحف” (عنوان برلين الحضاري) ويَختص بتقاليد ترقى الى عهد منشئه الملك البروسي فريدريخ ولْهِلم الرابع الذي، نَهار افتتاحه (1855)، سَمّاه “معبد الثقافة والتعلُّم للعموم” ناهداً الى أن يَجعل منه “الأكروبول الحديث” (على غرار أكروبول أثينا القديم الذي كان مفخرة اليونان القديمة وواحة التعليم فيها وملتقى عباقرتِها). من هنا تقسيم متحف “نيوس” في الداخل الى قاعات للتعليم وفسحات لعرض الفنون واستعراض الروائع الأثرية، وكل ذلك لـ”تعليم وتثقيف أعلى مستوى مُمكن من الشعب” (كما ورد في خطبة الافتتاح).
كان مأْساوياً مصيرُ هذا المتحف بعد تدميره واحتراق الكثير من مُحتوياتٍ فيه ثَمينة صعُب إنقاذُها لضخامة أحجامها وأعدادها، ورزوحه في النسيان عُقوداً طويلةً بين ركامه وخرابه لأن السلطات الشيوعية في برلين الشرقية أهْملتْه كلياً ولم تَهتم بترميمه.
واليوم، اهتمامُ الدولة الألمانية باستعادة ألقه ومَجد ماضيه (بكلفة ستبلغ 295 مليون يورو) يشير الى وعيها على فضائل الحس المدني وحفاظها على تاريخ المدينة وذاكرتِها واسترجاع معالِم فيها شكّلت طويلاً عنوانَها المضيء في العالَم. وتَخصيصُ الدولة استثماراً كبيراً لاستعادة مَجد هذا المتحف التاريخي الفريد (من دون نسيان الماضي الأليم، والاحتفاظ ببعض سِماتٍ فيه مقصودةٍ من ذاكرة الحرب)، إنما هو تَطَلُّع الدولة الى المستقبل البنّاء واستعادة موقع لَها، في مَجد الانتصار والحضارة، سيعيد الاعتزاز الى قلوب المواطنين الألمان: أُمثولةٌ رائعة في الحس المدني ليت يَحتذيها كلُّ وطن ينبض فيه حس الحضارة.
“دار الأوبرا الخديوية” (القديمة) كانت عنوانَ القاهرة الحضاري حتى احترقَت سنة 1971 (بعد عملها مئةً وسنتين، منذ بناها الخديوي إسماعيل سنة 1869) فجاءت الدولة المصرية بِمَجموعة كبيرة من صوَر دار الأوبرا القديمة خصَّصت لها في مبنى دار الأوبرا الجديد (عند افتتاحها سنة 1988) جناحاً خاصاً يكون، ولو بالصوَر الفوتوغرافية، واحة استذكار واعتزاز.
هكذا لبنان الذي مـرّت بيروتُهُ بالنار والدمار: أعاد إليها مَعالِم واستعاد أُخرى، ويعمل الى ترميم عدةٍ منها بعد، في الحبيبة بيروت وفي مدنٍ أخرى وقرى تتهيَّأُ لَها مشاريع سياحية وثقافية لاستعادة واحاتٍ فيها ومعالِم تَجعل لبنان الآتي مُشِعّاً بأمسه المضيء، وتؤكِّد على حيوية شعب لبنان في القيام من الدَّمار الى العَمار، من الرماد الى العِماد، في خُطى قد تتباطأ أحياناً، بسبب وضعٍ أمني أو سياسي، لكنها آتيةٌ تلك الخطى، فيعتزّ شعبُنا بوطنه، فخوراً بتراثه ومستقبله، لأنّ شعبَنا أصيلٌ وواعٍ تَماماً أنّ الوطن العريق يَحيا مُعزَّزاً بِمعالِمه الحضارية بين حفْظ الأمس ومَحفظة المستقبل.