هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

580: منصور الرحباني: الذّكر، الذّكرى، الذاكرة

منصور الرحباني: الذِّكْر، الذكْرى، الذاكِرة
السبت 17 كانون الثاني 2009
– 580 –
ماذا يعني أن تتحرَّك وسائلُ الصحافة والإعلام، لبنانيُّها والعربيُّ وبعض الأجنبيّ، وأن تسري في الأقربين والأبعدين، أصدقاءَ أو زملاءَ أو قادرين أو جمهور مُتابعين، موجةُ هذا الحزن الغامر لغياب منصور الرحباني؟
وماذا يعني أن تعلو الحالةُ الآسفة الى ما كانتْه قبل 22 سنة يوم شاع نبأ غياب عاصي في 21 حزيران 1986؟
يعني، انطباعاً أول، أنّ الأسف والأسى والحزن مثلَّثٌ متناسقٌ أمام الغياب، لا أيّما غياب بل الذي يَمسُّ الذاكرة الجماعية لشعبٍ كامل، هنا وهناك هنالك، اعتاد أو نشأ أو رافق أعمال المبدع الذي ينطوي من الذكْر ويدخل في الذكرى.
ويعني، تالياً، أنّ الوطن الذي يعرف أن يتذكَّر ويستذْكر ويَذكُر، هو الذي يَحفظ في ذاكرة أجياله الراهنة والآتية ذكْر الكبار الذين صنعوا مَجد الأوطان وكتبوه في زمانهم للأزمنة التي تأتي. وصانعو الأوطان هم ، في المرتبة الأُولى، المبدعون: شعراً وموسيقى ومسرحاً وكوريغرافيا ورسماً ونَحتاً وفي كل واحدٍ مثمرٍ منتجٍ من حقول الإبداع.
ويعني أخيراً أن الأوطان التي تبني مَجدها على الزوائل، تقيمه على رمل، ولا يبقى في صدى الآتي سوى الطنين، والطنين مهما طال لا يعمّر ولا يدوم.
من كان وزير الخارجية أيام بيتهوڤن؟ من كان رئيس الحكومة أيام موزار؟ من كان حاكم ألمانيا أيام غوته؟ من كان يذكر سيف الدولة لولا المتنبي؟ من يتذكَّر، في أيِّ بلد من بلدان العالم، أسماء سياسيين فيه، لولا حفنة شوارع بأسمائهم أو تماثيل لهم في نواصي بعض الشوارع؟ كلُّ ما في الوطن يدخل في النسيان (الجماعيّ خصوصاً) إلاّ الإبداع: كلما غاب، أشرق أقوى.
للسياسيين عموماً (باستثناء رجال دولة تاريخيين) زوائل الزمن الذي لا يَحفظ منهم سوى أسماء. وللمبدعين عموماً ودائماً ثوابتُ الزمن الذي يَحفظ أعمالهم في الذكْر، ويُحافظ عليهم في الذكرى، ويزرعهم في اللاحق من أجيال الذاكرة.
منذ اليوم بدأتْ پولونيا تستعدّ لاحتفالات (ستعمّ العالم أيضاً) في الذكرى المئوية الثانية (1810-2010) لولادة شاب پولوني مات في التاسعة والثلاثين (1949) اسمه فردريك شوپان. فهل في پولونيا من يتذكَّر اسم حكّام پولونيا أيامها أو رئيس وزرائها أو وزير منها أو أيّ سياسيّ؟ مع ذلك، تتحرّك الدولة كرمى لصورتِها هي (لا لصورة شوپان الذي ليس في حاجة الى أحد، ولا حتى لدولته، لتمليع صورته) كي تكون الاحتفالات السنة المقبلة على مستوى “رسمي” و”حكومي” و”شعبي”، مع أن الدولة الپولونية ليست مقصِّرة في حق شوپان، فكونسرڤاتوارها اسمه “أكاديميا شوپان” ومطارها الوطني اسمه “مطار شوپان”، الى معالمَ كثيرة تطالع الپولوني (والسائح في پولونيا) بِما يَجعله يُكْبِر إكبار الدولة عبقريَّها الشاب التي انكسر في ربيع العمر وترك موسيقاه ربيعاً دائماً لجميع المواسم في جميع البلدان. وكذا الحال قبل ثلاث سنوات حين احتفلت النمسا (ومعها أوروبا والعالم) بالذكرى 250 (1756-2006) لولادة شاب نمساوي مات في الخامسة والثلاثين (1791) اسمه وولفغانغ أماديوس موزار.
منصور الرحباني، في غيابه، لم يعد “فناناً” من لبنان. أصبح “الذّكْر” الذي ارتقى الى “الذكرى” ليدخل في “الذاكرة” كي يبدأ الانتساب. فالناس العاديون ينتسبون الى الوطن، أما الوطن فينتسب هو الى مبدعين فيه تركوا بصمة تغيير في ذاكرة التاريخ.
من هنا أن الإرث الرحباني لم يعُد في حاجة الى تكريم دولة، ولا الى استذكار في شارع أو تِمثال، لأنه دخل في ذاكرة جماعية لا يمحوها الزمن، ولم تعُد تؤثّر فيه زوائل الزمن ومتغيراته.
فالشعوب التي تعي إرثَ مبدعيها وتنقله الى أبنائها جيلاً بعد جيل، هي وحدها المؤهَّلة أن تستحقَّ مبدعي وطنها، وأن تنتمي إليهم.