هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

578: مَن يتعلَّم عندنا من بيراردو؟

مَن يَتَعَلَّم عندنا من بيراردو؟
السبت 3 كانون الثاني 2009
-578-
الشهر الماضي شهد متحف اللوكسمبور (باريس) ظاهرةً شَكلُها عاديّ لكنّ مضمونَها استثنائيّ: معرضٌ لأشهر الأعمال الفنية يضمّ 76 لوحة من أصل 862 هي مَجموعة “متحف بيراردو” في لشبونة. وإذا كانت الأعمال المعروضة، على أهميتها، عادية في تقديم روائع الفن التشكيلي العالمي لزوار المعرض، فالمجموعة في لشبونة تَجمّعت لصاحبها في قصة غير عادية.
الملياردير البرتغالي خوسيه مانويل بيراردو لم يرث الثروة. فهو وُلِدَ فقيراً (1944) مصاباً بإعاقة في النطق، لأسرة من سبعة أولاد، والدُها أمّيٌّ تَماماً. وفي أوّل يوم من أوّل سنة مدرسية له ذهب الى المدرسة منتعلاً حذاء شقيقه، لكنه في سائر أيام تلك السنة الأُولى كان يذهب حافياً، لافتقاره الى حذاء ينتعله يومياً. ولم يَطُل عهدُه في المدرسة (لشدّة فقر الأُسرة) فخرج في الثالثة عشرة من عمره الى العمل، يلصق الاسم على زجاجات النبيذ لدى معمل كان والده يعمل فيه حَمّالاً. في الثامنة عشرة سافر الى مستعمرات البرتغال الأفريقية واستقرّ في جنوب أفريقيا يشتغل في بيع الخُضَر والفواكه. وإذ كان يوماً يبيع الفاكهة لعمّال المناجم في الجبال، اكتشف “كنوز” الذهب الخام، فبدأ صفقة مع رئيس بورصة جوهانسبورغ، تعاوناً مع صديقه بيتر بوثا (وزير المناجم ولاحقاً رئيس جنوب أفريقيا) وبدأ في 1978 بتجارة الذهب الخام، وأخذت ثروتُه تتنامى حتى باتت حالياً أكبر من أن تُحصى.
غير أن فضله على الفن ليس في ذاك، بل في شرائه ذات يوم نسخة مزوّرة من “موناليزا” دافنتشي، جعلها هدية لعروسه يوم زواجه منها في جوهانسبورغ. ثم راح يقتني أعمالاً نَحتيّة من أفريقيا الجنوبية وروديسيا، وأخذ (هو شبه الأُمي ولا يفهم في الفن) يوظّف خبراء في الفن يشترون له روائع الفن التشكيلي المعاصر من المجموعات والمعارض والمزادات، ووسَّع شبكة الاختصاصيين يترصَّدون له الروائع التشكيلية ليقتنيها، حتى باتت مَجموعته اليوم (بتقديرات مؤسسة “كريستيز” للمزادات) تساوي نَحو 316 مليون أورو، أضافها الى مَجموعة مقتنيات سابقة أسّس بِها “متحف بيراردو” داخل “مركز بيليم الثقافي” (أنشاته الدولة في لشبونة العام 1992 لاستقبال الأَعمال الفنية). وأَصر على فتْحه “مَجاناً” للزوار، انتقاماً لحرمانه الفن في طفولته، حين لم يكن يستطع زيارة المتاحف، لأنه لم يكن يَملك ثَمن بطاقة الدخول.
طويلةٌ (ومثيرة وغريبة ومذهلة) حكاية خوسيه بيراردو مع ثروته العظمى التي وظّف معظمها لرصد الأعمال الفنية الكبرى في العالم، واقتنائها ووضْعها أمام الزوّار “كي يتثقَّفوا ويتمتّعوا مَجاناً بروائع الفن العالَمي المعاصر، لوحاتِه والمنحوتات”. فمقتنياته إذاً ليست “شخصية” بل “غيرية”، وليست لرصيد بلاده وحسب بل يرسل من مَجموعته أعمالاً في متاحف جوالة (حقيقية لا افتراضية) سعياً الى تثقيف الناس في كل البلدان، مما يَجعله اليوم من أكبر المترسلين للفن في العالم.
وبيراردو دائم ارتداء اللون الأسود حِداداً على موت الحس الثقافي في البرتغال، وتقصير الدولة في رعاية الثقافة.
الشاهد من هذه الحكاية (على إيْجازها، لضيق المكان) أنّ لدينا في لبنان أفراداً مثقّفين كباراً ومقتدِرين وأَصحابَ مَجموعات ذوات ثروة فنية كبرى من أعمال فنيةٍ أصلية مهمّة، لكنهم يُقفِلون عليها قاصرين مشاهدتَها عليهم وعلى ذويهم وزوارهم، بينما فتْحُ أبوابِهم (ولو لأيام قليلة في السنة يعلنون عنها) يتيح للّبنانيين وطلاّب لبنان وزوّار لبنان والسيّاح مشاهدة روائع الفن العالَمي، مما يعود على أولئك الأفراد رصيداً معنوياً كبيراً بدخول أسمائهم في خرائط عالمية للسياحة والثقافة (ولا أظن ذلك ليس يغريهم). وهذا، بسبب فقدان متحف وطنيّ لبنانيّ للفن التشكيلي، يَجعل لبنان على خارطة البلدان التي تكتنز لديها أعمال عباقرة الريشة والإزميل، كنوزاً للحضارة الإنسانية تباهي بِها دول العالَم.
بلى: عندنا في لبنان أكثر من بيراردو. لكن… هل مَن يتعلّم؟