هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

570: مسرح سيّد درويش بَناهُ لبناني

مسرح سيِّد درويش بَناهُ لبناني
السبت 1 تشرين الثاني 2008
الإسكندرية – 570 –
كنتُ غارقاً في تأمُّلي قبّةَ سقف “مسرح سيّد درويش”، وفيها بلاطات بيضاوية على كلٍّ منها اسم عبقري موسيقي (موزار، ڤيردي، ڤاغنر، برليوز، بيزيه، روسيني،…) حين قاطع تأمُّلي شابٌّ عرّفني بأنه قنصل لبنان العام في الاسكندرية وعميد السلك القنصلي في المدينة نضال يَحيى. وقبل أن أهُمَّ باستقباله مرحِّباً بادرني بِحماسة لبنانية عالية: “أتعرف أنك في مسرح بناه لبناني”؟ ولم يترك لي لَحظة دهشة أو استفسار، بل واصل شرحه بالحماسة اللبنانية نفسها: “نعم. هذا المسرح بناه، على حسابه الخاص، جورج قرداحي من طرابلس، وبلغت كلفته ملايين الجنيهات، ثم قدّمه هدية لصديقه الملك فؤاد الذي كان يومها “ملك مصر والسودان” ووالد الملك فاروق آخر الملوك على مصر”. استفسرتُ منه عن هذا الجورج قرداحي فأجابني أنه كان في زمانه “ملك البورصة” وأغنى أغنياء الجالية اللبنانية في مصر، حتى أنه يوم توفي سنة 1923 وصلت تلغرامات الى جميع مراكز البورصة في العالم توصي بالتوقُّف دقيقة واحدة عن التبادل بالبورصة “حداداً على هذا الفقيد الكبير”.
وهكذا، فيما كان العالم يَخرج من رواسب الحرب العالمية الأُولى، ويتأرجح بين الفقر والجوع، كان لبناني سنة 1918 يبني مسرحاً فخماً جاء له بأَشهر مهندسي فرنسا فترتئذٍ جورج باروك فبناه على طراز “أوديون” باريس و”أوبرا” ڤيينا. يومها سمّاه الملك فؤاد “تياترو محمد علي” (على اسم جدّه)، وكتبَت الصحف لدى افتتاحه المهيب الهائل (سنة 1921) إنه “مسرح لا نظير له من الصين الى موريتانيا”.
سنة 1962 أمّمه الرئيس عبدالناصر فغيَّر اسمه الى “مسرح سيّد درويش” تَخليداً لذكرى عبقري الموسيقى المصري ابن الاسكندرية، وأمر بتسجيل المبنى على “لائحة الآثار الإسلامية في الإسكندرية”. وبعد توقُّفه نَحو 15 سنة، صدر قرار رئاسي بوضعه على قائمة التراث المعماري المصري، فبدأ ترميمه سنة 2001 (على الشكل الأول كما كان سنة 1921) وتغيّر اسمه الى “دار الأوپرا المصرية” بقرار من وزير الثقافة فاروق حسني. وحين دشّنه الرئيس المصري مبارك سنة 2004 أعلن افتتاحه كـ”دار أوپرا الإسكندرية – مسرح سيّد درويش”.
بعد حفلة الافتتاح كتب القنصل العام اللبناني الى وزير الثقافة المصري يلوم السلطة المصرية على إغفالها اسم بانيه اللبناني جورج قرداحي من خطب التدشين، فجاء الجواب من الوزير المصري اعترافاً بذاك الإغفال “غير المقصود”.
ومنذ أعيد هذا المسرح تُحفةً معمارية كما بناه اللبناني جورج قرداحي (اتّخذ اسم بدر الدين قرداحي لأسباب عائلية في حينه)، بثلاثة لوجات فخمة ومسرح كبير وعريض ومزوّد بأحدث تكنولوجيا مسارح العالم، وهو يستقبل أكبر الفِرَق الموسيقية العالَمية، عدا الفرَِق المصرية التابعة لدار الأوپرا المصرية (أوركسترا القاهرة السمفونية، فرقة باليه أوپرا القاهرة، كورال أطفال الأوپرا، …)، ومؤخراً تأسست فيه فرقة أوپرا الإسكندرية للموسيقى والغناء العربي، وأنشئ مركز تنمية المواهب الزغبة.
وأنا في غمرة تأَمُّلي هذا الأثر الرائع الجمال، وأحاول أن أستحضر في مُخيّلتي صورة لا أعرفها لرجل لا أعرفه، لبناني تبَرَّع ببناء هذا الصرح الهائل الفخامة، يندهني من تأمُّلي قنصلنا اللبناني، فأستفيق على كلامه الطالع من حماسة لبنانية نقية، وأشاركه الاعتزاز بلبنانِيٍّ ترك في الإسكندرية، لكل مصر ولعالم المسارح الكبرى في العالم، أثراً فنياً عظيماً لا يَكتب عنه أحد ولا يذكره أحد ولا يصدر عنه منشور إلاّ وينوّه بأن الذي بناه هو جورج قرداحي ابن لبنان الذي له في مصر بصماتٌ على الشعر والأدب والصحافة لا تَمحوها جميع سياسات العالم.