هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

569: الخديوي اسماعيل حياً في الأوبرا

الخديوي اسماعيل حيّاً في الأوپـرا
السبت 25 تشرين الأول 2008
القاهرة – 569 –
غالباً ما أُعطي نَموذج الخديوي اسماعيل عند ذكْري أهمية إنشاء الحاكم في عهده آثاراً ثقافية تُبْقيه في الذاكرة. لذا فور وصولي الى القاهرة قصدتُ دار الأوپرا التي بناها اسماعيل (18/1/1830- 2/3/1895) خلال سنوات عهده (1863-1879) وخلالها عرفَت مصر نَهضة ثقافية كبرى لا تزال تبقيه حتى اليوم حياً في ذاكرة التاريخ المصري الحديث.
وكنت أعرف أن مُجَمَّع الأوپرا الحالي حديثُ العهد (منذ 1988) وهو بات “المركز الثقافي القومي” وذا تسعة أقسام: قصر الفنون (للأنشطة التشكيلية)، مركز الهناجر (مسرح صغير للعروض الحرة)، مقر نقابة الفنانين التشكيليين، مكتبة الأوپرا الموسيقية (ومعها قاعة للعروض الفنية)، مركز الإبداع الفني، متحف الفن المصري الحديث، المسرح الكبير (للعروض الأوپرالية والغنائية الضخمة)، المسرح الصغير (للندوات والأمسيات الثقافية)، والمسرح المكشوف (للعروض الصيفية و الشبابية).
غير أنني في جولتي توقفتُ طويلاً (وهو ما كان يهمّني) عند جناح “دار الأوپرا الخديوية الملَكية” وطالعتُ فيه، بالنصوص والصور، نبذةً عن إنشائها (في حي الأزبكية سنة 1869) لمناسبة انتهاء شق قناة السويس، فكانت أول دار أوپرا في الشرق. ولم تسعف الظروف الخديوي بأن يتم على مسرحها الفخم عرض “أوپرا عايدة”، لكن التاريخ لا يزال يذكر (وسوف دائماً يذكر في أيّ بلد من العالم وفي أية لغة يتم فيها تقديم هذه الأوپرا على أي مسرح من العالم) بأن “أوپرا عايدة” وضعها جيوزيپّي فيردي (1813-1901) بناء على تكليف رسمي من الخديوي اسماعيل.
وبتجوالي في هذا الجناح كان الخديوي حياً يَملأ النّصوص والصور بتفاصيل إنجازه الضخم، وبتأثيره وأثره في النهضة الحضارية المصرية عهدذاك (فهو أيضاً أنشأ شارع الهرم تسهيلاً لضيوف مصر عامئذٍ – 1869- بزيارة الأهرام، وفي السنة التالية أنشأ دار الكتب). وحتى عند احتراق الأوپرا الخديوية بسبب احتكاك في الأسلاك الكهربائية (في 28/10/1971) كان ذكْرُه نابضاً لكونه ترك هذا الأثر الخالد الذي خدم الفن العالي قرناً كاملاً (100 وسنتين) فكان مسرح أوپرا القاهرة يستقبل أشهر العروض العالمية.
هكذا إذاً بقي الخديوي اسماعيل في ذاكرة مصر وخلود الفنون، ويذكر تاريخ مصر عهده (16 سنة) لا بعدد الحكومات التي شكَّلها، ولا بعدد المراسيم التي وسَم توقيعه عليها، ولا بعدد الطرقات التي شقّها على أيامه، بل بإنشائه صرح “دار الأوپرا” التي دخَلَها ولا يزال يَدخُلُها (منذ 1869) ملايين الذين لا يذْكُرون من الخديوي اسماعيل إلاّ هذا الأثر الحضاري.
أيّها الحاكم أياً تكن وأنّى تكن ومهما تكن: وحدَهُ إنشاؤُك آثاراً ثقافية في عهدك يُنقذك من النسيان بعد انتهاء ولايتك أو حياتك، ويُبقيك حياً في الذاكرة مدى سنوات طويلة بعدك. وكلُّ ما تفعله عدا ذلك، أو تقوم به، أو تتركه، ليس سوى زبد مؤقّت بصورة إنْجازاتٍ سياسية وإدارية وأمنية ودبلوماسية لن يذكرها بعدك سوى قلائل.
أيّها الحاكم أياً تكن وأنّى تكن ومهما تكن: إتَّخذْ من أول الطريق خيارَك في الحكْم مَن تريد أن تكون: مُجرّد صاحب تواقيع آنيَّة على مراسيم وقوانين وأنظمة وحكومات وبنية تَحتية، أو حاكماً خالداً على الزمان إذا عرفتَ كيف تُحيط حُكْمَك بِمُبدعين يَحملونَك الى تنفيذ آثار إبداعية يُخلِّدونك بِها فلا يَذْكُرُهم التاريخ إلا ويَذْكُرُكَ معهم، بينما لن يَذْكُرَكَ مع أيّ واحد من السياسيين في زمانك وستكون معهم ومثلهم عابراً زائلاً في زمان زائل عابر.