هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

505: لهم بيروتُهم ولنا بيروتُنا

لهم بيروتُـهم ولنا بيروتُـنا
السبت 14 تموز 2007
– 505 –
… ومن أعلى سلطة ثقافية عالَمية هذه المرة: منظَّمة الأونسكو. وكما تعويضاً عن كل القهر الذي وضعنا فيه سياسيون لا يرون من بيروت إلاّ ساحة للمصارعة السياسية أو شدّ الحبال أو منبر التصايُح والتصاريح وتسجيل النقاط أو شوارع لإثبات أعداد الأغنام التي يأمرونها فتطيع: مرة بتظاهرات مليونية ذات يافطات وشعارات، مرة باعتصامات ولو على حساب تهجير السياح، ومرة بخيام منصوبة تجمع الأزلام والمحاسيب وتطرح الموسم الاقتصادي وتضرب الحركة التجارية والسياحية وتقسم بيروتنا الحبيبة قسمين أو ثلاثة أو أكثر بحسب الشعارات واليافطات والاستزلامات والـ”آذارات”.
هذه هي بيروتهم، بيروت سياسيين ولاَّهم الشعب صوته فتناولوا الصوت واستغلوه لمصالحهم وغاياتهم وشخصانياتهم.
أما بيروتنا نحن، “الميمونة” التي يعرفها العالم المتحضر، فهي بيروت التي كشفت عن صدرها قبل سنوات فظهرت في قلبها حضارات متعاقبة متتالية تروي عراقة بيروت وعظمة بيروت وأهمية بيروت التي ليست أم الشرائع وحسب بل أم الروائع.
بيروتنا نحن (وشكراً لوزارة الثقافة على الملف الوافي الذي أعدته ورفعته إلى الأونسكو حتى استاهلت بادرة الأونسكو، ولبلدية بيروت التي ساهمت وستُسهم في أنشطة التظاهرة طوال عام كامل) هي بيروت التي كانت ولا تزال وستبقى حلم كل مبدع عربي أن يطبع كتابه في بيروت، أو يعرض لوحاته أو منحوتاته أو مقطوعاته الموسيقية في بيروت، أو يقدم مسرحيته في بيروت، أو يقف على منبر في بيروت أو مسرح في بيروت، وكذا كثيرون من مبدعي العالم يهمهم أن يضيفوا إلى سيرتهم الذاتية ولائحة أعمالهم أنهم سجلوا حضوراً لهم في بيروت.
بيروتنا نحن، هي بيروت التي اختارتها منظمة الأونسكو “عاصمة عالمية للكتاب سنة 2009” وتضافرت على هذا الاختيار جمعيات دولية تعنى بشؤون الكتاب، إقراراً بدور بيروت فسحة نموذجية في العالم للحوار والسلام والتنوُّع الثقافي. ولذا جاء تنفيذ هذا الاختيار يعانق مروحة رباعية المحاور: القيم (اقتبال الآخر، حرية الإبداع)، الحقوق (حقوق الإنسان، حرية التعبير، حقوق الطفل، مشاركة المرأة)، الهوية والتراث والعولمة، ثم الديموقراطية الثقافية وسبُل تحقيقها.
بيروتنا نحن هي الرائعة الغالية التي استحقّت (وليس جديداً عليها) أن تكون عاصمة اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف، وهي من سنوات سحيقة عاصمة المؤلفين والناشرين والمطابع والدوريات اليومية والأسبوعية والشهرية، وهي من سنوات طويلة عاصمة الكثيرين من رجال الفكر والقلم والتفكير الحر الليبرالي الاستقلالي، بيروت استقطاب الأفكار والمفكرين.
بيروتنا نحن، لا علاقة لها ببيروتِـ”هم” الحلبة التي يتصارع فيها أقطاب السياسة والناس حولهم على المدرجات (في العواصم الأخرى) يتفرجون على سياسيي بيروت ماذا يفعلون وكيف يتناهشون على حلبة بيروت، يدمي واحدهم الآخر ويفرح بالدم ينْزف من الآخر ولا يدري أن هذا دم بيروت الذي ينْزف، والناس على المدرجات يتفرجون، وسياسيو بيروت يوغلون في تصارعهم وتناهشهم وتناتشهم، وبيروت تغرق أرضها بدم التناهش والتناتُش، والعالم ينظر إلى هذه البيروت ويأسف ويُشفق ويتأمل كيف سياسيو بيروت لا يعرفون أية جوهرة يمرغون في وحول كيدياتهم وشخصانياتهم وأنانياتهم القاتلة.
بيروتنا نحن هي آفاق الحضارة والثقافة والإبداع، وبيروتهم هم هي الشوارع والساحات والزواريب. بيروتنا نحن هي بيروت الكتاب والكلمة والموسيقى واللون واللوحة والمنحوتة والمنبر الفريد، وبيروتهم هم هي بيروت الفرصة والمناسبة والأزلام.
بيروتنا نحن عاصمة لبنان الإشعاع الحضاري منذ أول التاريخ، وبيروتهم هم دُغل الجهل الذي يخجل منه التاريخ.
يا بيروتنا: عقوبتهم أنهم زائلون عابرون كزبد بحرك الأزرق، وعزاؤنا أننا باقون في قلبك التاريخي الرحيم. فاطرديهم.
لا مكان للجهل في كتاب الحضارة.