هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

495: لا سكاناً بل مواطنين

السبت 28 نيسان 2007
-495-
عن الرئيس الأسبق فؤاد شهاب قولُه: “لن يستقيم لبنان إلاّ متى وعى أَبناؤُه أن يتحوّلوا من سكّان إلى مواطنين”. ولعلّ هذه العبارة، على إيجازها البليغ، أفضل دواءٍ للداء الذي يفتك هذه الأيام بلبنان الشعب والأرض والمصير.
السكان قد يكونون قاطني بيت ويرحلون، قاطني فندق ويغادرون، قاطني حيٍّ ويهجرون. من طبيعة السكان أن يكونوا مؤقَّتين فينْزحوا طوعياً أو قسرياً غير آسفين على المكان الذي يغادرونه.
أما المواطنون فدائمون لأنهم أبناء وطن لا يمكن أن يكون مؤقتاً ولا يمكن أن يكونوا فيه مؤقتين، لذلك يعملون على تَمتينه فيهم وتَمتينهم فيه بُناةً إياه، أوفياء له، ناظرين إليه، مستمدين القوة منه لهم فمرتدّينها له تَجذُّراً في أرضه وفيهم.
أبسط القول في هذا السياق إن السياسيين في الوطن هم، لا المواطنون، يقودونه إلى الانهيار ويقودونهم إلى اليأس فالهجرة. صحيح. لكن للمواطن حقوقاً وعليه واجبات. ومن أول حقوقه: المحاسبة. فحين يُحاسب سياسييه (وأقسى المحاسبة: صندوقة الاقتراع نهار الانتخاب) يقوم بواجباته طوعاً وقناعةً، مدركاً أنه مقابلها سيقطف حقوقه تلقائياً.
هذه هي المواطَنَة الحقيقية، حقوقها وواجباتها، وهذه هي المظلّة المواطنية التي على الجميع في الوطن التمسكُ بها في إيمان.
سكان البيت يغادرونه إلى بيت آخر عند انزعاجهم منه أو من الجوار. سكان الفندق يغادرونه عند انتهاء مدة إقامتهم أو عند انزعاجهم من الإقامة فيه. سكان الحي يغادرونه إلى حي آخر لسبب أو لآخر. البيت قد يكون مؤقتاً، والفندق بطبيعته مؤقت، والحي يمكن (ولو نادراً) أن يكون مؤقتاً، ولكن… هل يمكن أن يكون الوطن كله مؤقتاً فيغادره أبناؤه إلى وطن آخر؟
من أهداف المؤامرة على لبنان أن يُحوّله المتآمرون وطناً يظل يتزعزع حتى يشعر أبناؤه أنه “مؤقت” فيغادرُوه إلى وطن آخر أكثر ثباتاً وأمناً وأماناً. وهذا يحدث حين يشعر أبناء الوطن أنهم “سكانه” لا “مواطنوه”.
وهذه الهجرة الرهيبة القاتلة التي تنخر لبنان منذ سنوات، وتقضم ديموغرافياه في نزف بطيء مأساوي بل فاجع، تشير إلى أن الذين يغادرونه هاجرين (غير ملتفتين إلى الوراء ولا آسفين على دموع والدة، أو غصّة والد، أو مغادرة بيت الطفولة أو بلدة النشأة، أو ذكريات الصبا والأتراب) لا يشعرون أنهم “مواطنون” في وطنهم بل اكتشفوا أنهم “سكانه” المؤقتون يغادرونه إلى وطن يبدأون فيه “سكاناً مهاجرين” ثم يتحوّلون فيه “مواطنين أصيلين” ضالعين في نسيجه الاجتماعي والديموغرافي والجغرافي.
أقول: يغادرون لبنان إلى وطن آخر، والأصح أن أقول: يغادرون الأدغال السائبة في لبنان إلى وطن فيه دولة تَحميهم وتطالبهم بواجبات تعطيهم مقابلها حقوقاً تضمن لهم أمنهم وأمانهم واستقرارهم ومستقبلهم ومستقبل أولادهم.
النقطة المحورية هنا: وحدها الدولة تجعل الوطن منيعاً، وتَجعل أبناء الوطن يشعرون بأنهم مواطنون ثابتون فيه راسخون في أرضه وتاريخه ونسيجه الاجتماعي المتجذّر، وليسوا سكاناً على شرفته يغادرونـه عند أول هبوب ريح أو عاصفة.
وعبارة الرئيس فؤاد شهاب “نريد في لبنان مواطنين لا سكاناً” تعني أن تقوم في لبنان دولة تَحمي أبناءه فتجذّرهم مواطنين يحاسبون دولتهم (وخصوصاً يعاقبون رجال السياسة في صندوقة الاقتراع نهار الانتخاب) ويفرضون عليها أن تكون حاميتهم وضامنتهم فلا يديرها سياسيون مصلحجيون بل رجالُ دولة يعملون خدّاماً للشعب ولا يجعلون المواطنين خداماً عندهم. وهذه (الأطقم السياسية) هي السوسة التي تنخر صحة لبنان فتحيله عليلاً وتجعل مواطنيه سكاناً يغادرونه بلا أسف.
وليست مصادفة أن أشاح الرئيس فؤاد شهاب عن السياسيين فسَمّاهم “أكلة الجبنة” وأعلن أنهم غير جديرين بحكم لبنان، وتالياً أنهم المسؤولون أوّلاً وأخيراً عن تَحويل أبناء لبنان من مواطنين متأصّلين إلى… سكّان مؤقتين.