هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

494: لبنان “محمية حضارية”

السبت 21 نيسان 2007
-494-
بين الحديث عن “حياد” لبنان، ووضع لبنان تحت “الرعاية” الدولية (يسميها البعض “وصاية” والبعض الآخر “هيمنة”)، والتمسُّك بالشرعية الدولية وقراراتها ودعمها وخبرائها حمايةً للبنان من غيلان الشر وخفافيش السياسة ومركنتيليّي الأوطان، طلع علينا “منتدى سفراء لبنان” (برئاسة السفير فؤاد الترك وعضوية نحو 100 سفير سابق عملوا للبنان الواحد الموحَّد) ببيان قبل أسابيع دعا إلى توحيد المساعي حتى إيجاد حلول نهائية للأزمات الدستورية والمؤسساتية والسياسية الحالية (لا تسويات ظرفية عابرة مؤقتة ولو طالت) في نداء من أجل أن يكون “لبنان، برعاية الأمم المتحدة، بيئةً نموذجية لتلاقي الأديان والثقافات والمعتقدات على اختلافها، ومركزاً عالَمياً للحوار بين تلك الأديان والثقافات والمعتقدات، فيصبح قدوةً للانفتاح والتفاعل والاعتراف بالآخَر والإسهام في إشاعة السلام الإقليمي والدولي”.
في هذا النداء، من حيث جوهره، وجه من التحدي للأمم المتحدة: إذا كانت تعمل فعلاً على إشاعة السلام في العالم وإقامة التلاقي وحوار الأديان والإتنيات بين 198 دولة (أعضائها اليوم، ومعظمها دول كبرى شاسعة ذات شعوب مليونية) فلْتبدأ بتطبيق عملها على لبنان الذي لا تتجاوز مساحته 10452 كلم مربع ولا يتجاوز شعبه أربعة ملايين. وإذا نجحت في هذه التجربة، فلْتعمِّمْها على سائر الدول الأعضاء انطلاقاً من لبنان الذي يصبح عندها نموذجاً فريداً في العالم تتشبَّه به دول العالم بيئةً نموذجية لتلاقي الأديان والثقافات والمعتقدات والحوار في ما بينها.
وإن لم يكن لبنان كذلك، فما مبرر وجوده والحفاظ عليه واهتمام دول القرار بتأمين حمايته الدولية؟ لا مساحته تُغري (في العالم لبنانيون يملك واحدهم أراضي بمساحة لبنان) ولا ديموغرافياه تغري (شعبه أقل من سكان ولاية صينية أو قاطني شارع في مانهاتن نيويورك) ولا وحدها طبيعته تُغري (في بلدان كثيرة من العالم طبيعة جميلة وخصوصاً نظيفة ومصانة سياحياً وبيئياً). إذاً: أهمية لبنان ليست في مساحته ولا في عدد أبنائه على أرضه ولا في نمط العيش اليومي (في بلدان كثيرة نمط عيش يومي أكثر هناءة ورغداً وأمناً وأماناً مما في لبنان)، بل أهميته في فرادة صياغَتِهِ “مَحمية حضارية” يكون لها دور نموذجي فتكون لها قيمة وحاجة وضرورة، بها يعوّض لبنان عن ضآلة جغرافياه وديموغرافياه بكونه وطن الحوار والإبداع والإسهام الحضاري.
ما تبحث عنه الأمم المتحدة، من واحة للتلاقي بين الأديان والإتنيات، موجود في لبنان قبلها وبها وبدونها، تعددياً فريداً مهيَّأً ليكون مركزاً ملائماً نموذجياً دولياً عالَمياً لهذا الحوار. وإذا قررت الأمم المتحدة، وهي أعلى سلطة رعاية دولية على الكرة الأرضية، اعتماد لبنان نموذجها الحضاري، يتمكَّن لبنان (كما كان قبلها وبها وبدونها) من أداء خدمة أكبر لا للشرق ولا للغرب ولا للعالم كله بل للإنسانية كلّها، بأن الحوار ممكن مكان الصراع، واقتبال الآخر ممكن مكان القايـينيّات، وتكون هذه المنظمة الدولية العليا (ولبنان عضو مؤسس فيها) أطلقت من لبنان رسالة عملية (لا نظرية ولا طوباوية) لتحقيق الحوار والتلاقي والسلام، وأثبتت أنها تنفذ قراراتها التي يسكن معظمها الورق وتتكدَّس أرقاماً تراكمية لـ”قرارات صادرة عن الأمم المتحدة” تظلُّ في أدراج المحفوظات ولا ترى طريقاً إلى التنفيذ.
وحين اختصر البابا يوحنا بولس الثاني كل هذا الشرح عن لبنان فقاله “الوطن الرسالة” كان يقصد أن يكون نموذجاً لا لـ”العيش المشترك” ولا لـ”التعايش” بل للحياة الواحدة في وطن تعدُّديّ من عائلات روحية يوحِّد بينها الله وتوحِّد بينها الأرض، ويوحِّد بينها التعبُّد لله والوفاء للأرض والولاء للوطن.
وهذه هي، في جوهرها الكياني والكينوني، رسالة لبنان الحضارية.