هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

464: لبنان… بين التصنيف والتوصيف

السبت 16 أيلول 2006
-464-
في أحد برامج الـ”توك شو” المباشرة على الهواء، كان الضيف (كالعادة طبعاً) أحد المسؤولين من “بيت بو سياسة” فأخذ (كالعادة، كرفاقه، كالموضة الدارجة اليوم) يوزع تنظيراته عن لبنان وكيف يجب أن يكون، ولم يغفل (طبعاً كالعادة، كسائر رفاقه) أن يكيل التهم لأخصامه السياسيين، مبرراً مواقف فريقه الطاهرة القديسة، وعارضاً مثالب الفريق الآخَر.
وبينما هو مسترسل في التنظير فاجأه المذيع مقاطعاً إياه بسؤال: “وأيَّ لبنان تريدون؟” فتنحنح الأخ واحنلنْشَش واسبطرَّ وراح يكرج بالحكي المكرر: “لبنان، طبعاً، لبنان… الصيغة، لبنان الكيان، لبنان العربي، لبنان اتفاق الطائف، لبنان أولاً، لبنان الواحد،…”، وأكمل، بكل شطارة، سرد مجموعة الكليشيهات السياسية المألوفة المعلوكة، ولم يمر بباله (طبعاً، كالعادة، كالموضة الدارجة، كسائر رفاقه) أن يلفظ عبارة “لبنان اللبناني”، اختصاراً (لو شاء) لكل التعابير الميتة التي لا توحي بالكرامة.
هل يتجاسر مذيع في فرنسا أن يسأل سياسياً فرنسياً: “أيَّ فرنسا تريدون”؟ وإذا فعل، هل يمكن السياسي الفرنسي أن يجيب بسوى “فرنسا الفرنسية” ومنها ينطلق إلى عرض رؤيته السياسية لفرنسا الفرنسية؟ هل يمكن أن يجيب بأنه يريد فرنسا الأوروبية أو فرنسا الغربية أو فرنسا المتوسطية، قبل أن يلفظ عبارة “فرنسا الفرنسية”؟
هكذا عندنا، من غير شر يجي سياسيينا: يلفظون عبارات “لبنان العربي”، و”لبنان المشرقي”، و”لبنان الفينيقي” و”لبنان المتوسطي” ولا يلفظون (أو يتحاشون، استنساباً أو مراعاةً، أن يلفظوا) عبارة “لبنان اللبناني”، مع أنها، لو لفظوها، تختصر “لبنان أولاً” (التي تذكّروها أخيراً وباتوا يتغرغرون بها) و”لبنان الصيغة والكيان والطائف والميثاق” وسائر ليستة التوصيف والتصنيف.
جاء وقت كانت فيه عبارة “لبنان اللبناني” عنوان تخوين واستهجان واتهامات بـ”الانعزالية” و”الشوفينية” و”التقوقع” و”الفئوية”، لأن الموضة كانت أن نُعير لبنان ساحة للإخوان والجيران والأصدقاء يأتون إليها، يتحاربون على أرضها، يخرِّبون عليها ما يخرِّبون، يخلقون فيها عملاء وجواسيس، ويخرجون، فتكون النتيجة أن يحارب لبنان من أجل الآخرين أو يحارب الآخرون بشعب لبنان واقتصاد لبنان وأحزاب لبنان. وكم من مظاهرات شهدتها شوارع بيروت من أجل عاصمة عربية هنا، أو قضية عربية هناك، أو “قضية العرب الأولى فلسطين”، حتى بلغنا أخيراً أن نكون، بعد حرب 12 تموز، شعباً منكوباً يطلق صرخات الإغاثة، ودولة شحادة على أبواب الدول تطلق صرخات النجدة للمساعدات الغذائية واللوجستية والمالية.
وزّعنا حالنا على المحيط والجيران والآخرين، حتى توزّعَنا الآخرون والجيران والمحيط وأصبحنا عراة من ذواتنا ووجوهنا وكياننا وهويتنا ومصيرنا ومستقبل أولادنا، ومع ذلك لا يزال سياسيونا يسترضون المحيط والجيران والآخرين فلا نسمع سياسياً واحداً بينهم ينطق بعبارة “لبنان اللبناني”، كأنها تهمة أو نقيصة، أو كأنها تعني تجزير لبنان (أي جعله جزيرة) بينما الدول تحترمنا أكثر حين نجاهر بهويتنا اللبنانية (قبل أي نعت آخر أو أية صفة ملصقة بها) فتبادر إلى التعامل معنا بمنطق الدولة القادرة (لا القاصرة) ومنطق الشعب الحر (لا التابع ولا الموزع على سواه) ومنطق الوطن الجدير بالرعاية الدولية (من أمم العالم المتحدة) لا بالوصاية الأجنبية (ولو كانت من أكبر دول الأرض).
فليعِ سياسيونا أن المجاهرة بـ”لبنان اللبناني” (وهي بداهة ومن العيب أن نتكلم بها لأنها معادلة طبيعية-إنما في دول العالم لا عندنا، لأنّ بيننا هواة تبعيّة واستزلام) هي المجاهرة بالحقيقة اللبنانية التي وحدها تنقذنا وتعطينا قوة منها نبدأ بالتعاطي مع دول العالم، لا مادّين أيدينا مستعطفين المساعدة كالشحادين على قارعة الطريق، بل رافعين جبيننا اعتزازاً بلبنان الذي أعلامه المبدعون أعظم من سياسييه، وشعبه الخلاّق أقوى من دولته، وفضله على العالم في الحضارة والفنون والعلوم مدعاة للكثيرين في العالم كي يشهروا انتسابهم إليه ويتمنوا أن يكونوا من أبناء لبنان.