هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

461: … والأهمّ: البنية التحتية الثقافية

السبت 26 آب 2006
-461-
كبيرةٌ فرحتُنا بهذه السرعة اللهيفة في العودة إلى البلدات والقرى والمدن المقصوفة لإعادة بنائها وترميم المتصدّع والتأسيس لبناء الجديد حيث لم يكن قديم. وبالقدْر نفسه فرحتُنا بحيوية المواطن اللبناني الذي ينهض من بين الدمار لا يائساً بل مفولذاً عزيمته على عمار أبهى وأجمل، وينهض من بين رماد الحجارة فيكنسه ليقيم مكانه حجارة (وعزيمة) أقوى وأمتن.
وبالمستوى نفسه، ابتهاجاً بالوطن الموحَّد، نأمل بعد هذه المحنة التي طَحَنَتْنا أن نخرج إلى كلمة واحدة لدى”بيت بو سياسة” كي يَبنوا الدولة الواحدة التي لها نهج واحد لا أن نعود إلى تنين الدولة المتعدد الرؤوس والميول والأهواء و…الانتماءات.
ولكن هذا الاهتمام (الشعبي والرسمي على السواء) بترميم البنية التحتية التي “هَرَمها” القصف الإسرائيلي المجرم بصواريخ الحقد والنار، قصفَ انتقام وموت، يبقى اهتماماً ببناء الحجر فقط دون البشر، مع أن لبنان أثبت مقاومة البشر الفريدة فيه. الأهم اليوم، طالما نبدأ من الصفر أو ما يحاذي الصفر: اهتمامُنا (دولةً ومسؤولين ومثقّفين ومنتجين ثقافيين) بترميم (كي لا نبالغ فنقول متشائمين: “بتأسيس”) البنية التحية الثقافية. وهذه، في لبنان، وهَنَتْ في المرحلة الأخيرة أمام زحف الدخيل والمسموم.
وهذه ورشة تستغرق أجيالاً كي نبني بها جيلاً واحداً (هو اليوم طفل أو لم يولد بعد)، من أجل أن نؤسس لوطن قويّ ذي شعب متين بثقافته ونشأته الحضارية، وإلاّ فما نفع أن يعلو عندنا البنيان ولا يعلو الإنسان؟ ما نفع البنية التحتية الباطونية والسلكية واللاسلكية ولا يستخدمها إنسان ذو بنية تحتية ثقافية متينة تعرف كيف تحافظ على المقتنيات استخداماً لها ذا بلوغ؟
لعل كلمة “هشّ” لا تنطبق عندنا مثلما تنطبق على البنية الثقافية التحتية التي شهدت في المرحلة الأخيرة تصدُّعاً وميوعةً وهشاشةً ورُعونةً وسطحيةً وتَخَلُّفاً جعل الجيل الجديد مذهولاً أمام صدمة الحرب، ضائعاً لا يجد هوية له ولا موقعاً وطنياً جلياً.
البنية الثقافية التحتية: في المدارس، في العائلات، في المسارح، في قاعات المحاضرات، في صالات الأُمسيات الموسيقية، في الفنون، في الآداب، في معارج الرقيّ الذي يحصِّن الإنسان في لبنان ضد الجهل والتخلف، أي ضد العصبيات السياسية القاتلة والانحيازات الفئوية والاصطفافات الشخصانية وراء زعماء قبائل وزواريب وعشائر قادوا أجيالنا إلى أشداق الطاعون الوطني.
وحدها البنية التحتية الثقافية تُمتِّن التمسك بلبنان الوطن الأول والأخير والنهائي لكل مواطن لبناني يعي أهمية الوطن والوطنية والْمُواطَنَة السليمة التي تنتمي إلى الشعب والأرض والتراث والثقافة الإنسانية لا إلى أيّ واحد من “بيت بو سياسة”.
مثال بسيط: فيما كانت الآلة العسكرية الإسرائيلية المجرمة الحاقدة تدكّ بيوتنا وأحياءنا وجسورنا وبنيتنا التحتية، كانت قناة “ميتزو” التلفزيونية (تبث إجمالاً كونشرتوات كلاسيكية) تبث مراراً سمفونياتٍ لأوركسترا تل أبيب الفيلهارمونية، فيشاهد العالم “عملاً حضارياً” لشعب “يدافع عن أرضه ضد الإرهاب” (كما تروّج الدعاية الإسرائيلية الدجالة) فيعجب العالم من شعب تدور أوركستراه الفيلهارمونية سفيرة له في العالم، بينما شعبه (يا حرام!؟) يقبع في ملاجئ شمال إسرائيل. وأكثر: قبل أن يغتصب الصهاينة أرض فلسطين (1948) ليؤسسوا عليها “دولة إسرائيل”، كان مهندسو البنية التحتية الثقافية عندهم أسسوا “أوركسترا إسرائيل السمفونية” سنة 1935 (13 سنة قبل تأسيس الدولة الغاصبة) وعياً منهم أن الدعائم الثقافية العالية تحصّن الشعب عند تأسيس الدولة على مكونات عالية سياسية وجغرافية ومالية وتجارية ومصرفية ودبلوماسية.
فلنعرف على الأقل أن نتعرّف على دواخل هذا العدو التاريخي الذي لا نرى منه إلاّ ذراعه العسكرية، بينما دعائم دولته الغاصبة تقوم على ركائز بنية تحتية ثقافية متينة تمتدّ من أقصى الشعر إلى أقصى الموسيقى مروراً بكامل مروحة الفنون والثقافة.
ولعلّ قادة إسرائيل الحاقدين يعرفون شرقطة الإنسان اللبناني وحيويته وعبقريته الفريدة، لذا كل مرة يضربون عندنا البنية التحتية وصولاً إلى ضرب بنية تحتية لنا ثقافية يخشون نهوضها الخلاّق.