هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

452: عاصي الرحباني: جمال لمداواة البشاعة

السبت 24 حزيران 2006
-452-
بين صرخة الولادة الأُولى (4 أيار 1923) وسكوت الغياب الأخير (21 حزيران 1986) ثلاث وستون سنةً زرع معظمَها عاصي الرحباني شعراً وموسيقى وجمالاتِ فنٍ عقَدَه مع شقيقه منصور عنواناً آخَر للبنانَ الإبداع.
وبين ذاك الغياب واليوم (حزيران 2006) عشرون سنةً لم تَغِبْ عنها أصداء الإبداع الرحباني مواويلَ جمال.
من أين ينبع هذا الجمال؟ ها هو عاصي (في كلمته نهار الاحتفال بأستاذه الأب بولس الأشقر ذات يوم من 1963 على مسرح سينما كابيتول-بيروت) يعترف: “لَمّا مرق بونا بولس بِضيعتنا أنطلياس، نَدَهْنا من طفولتنا التايهَه وعلّمنا الموسيقى. يومها كنا نِجهَل شو الموسيقى. ندَهْنا وخبَّرنا عن الفن. علّمْنا السهَر عَ الكلمِه. والنغمِه أخت الكلمِه. علّمْنا إنو قدّام ابواب الفن مِنضلّ تلاميذ. بس أهم شي تعلّمناه من بونا بولس: فرَح الإنسان بولادة الجمال”.
أربعة مفاتيح لباب واحد كشفها عاصي دخولاً إلى فن الأخوين رحباني: السهر على الكلمة (من هنا نقاء الكلمة الرحبانية وابتعادها عن البشاعة)، النغمة أخت الكلمة (من هنا صفاء الميلوديا الرحبانية وابتعادها عن الابتذال)، التلمذة على أبواب الفن (من هنا هذا النهم الرحباني الدائم إلى النهل من بكور المنابع في الوجدان الفني، بدون الـ”أَستَذَة” التي تقتل الإبداع وتغتال نبضة التجديد)، وخصوصاً خصوصاً: فرح الإنسان بولادة الجمال (من هنا هذا التطلُّبُ الرحبانيُّ الدائم، بل التشدُّد في تطلُّب الكلمة الأجمل والنغمة الأجمل واللحظة الأجمل في خلق رعشة الفرح لدى المتلقي).
ولعل عبارة دوستويفسكي “وحده الجمال يخلّص العالم” تنطبق، في أكمل معانيها، على التراث الرحباني الذي لم يقصد يوماً إلاّ إلى الجمال: شعراً، نغمةً، مسرحاً، موسيقى،… حتى ليمكن القول إن الفن الرحباني عطيةٌ تداوى بها البشاعة.
وما الجمال الذي “يخلص العالم” والذي “به تُداوى البشاعة”؟ إنه مجموع القيم السامية الراقية الرفيعة النبيلة النقية التي بدونها، أو بدون إحداها، لا إنسانية للإنسان ولا اطّلاب لسعادةٍ في ثنايا العمر. وإنه كذلك نهل الفنون جميعاً، سَمْعِيِّها والبصريّ، واقتطاف أجمل لحظاتها لتقديمها إلى المتلقي مسبُوكةً بأصفى الموهبة، مسكوبةً بأنقى التقنية.
ولنا في براءة “منتورة”، ونقاء “عطر الليل”، وأحقية “زاد الخير”، ورسالية “غربة”، وإيمان “وردة”، نماذج الإنسان الذي يصلبه الظلم، ويتآمر عليه الشر، وتحوطه الخيانة، ولا يسقط، ويظلُّ رسول الثالوث الخالد: الحق، والخير، والجمال، هذا الثالوث الذي غلب “هَولو”، وجلب “راجح المليح”، وكسر “فاتك المتسلط”، وهزم جبروت “الملك غلبون” و”جاب التران”.
وهكذا: من ينبوع الجمال، نَهَل التراث الرحباني مصادرَه جميعاً، فضَمنَ له البقاء الأطول، وضمن لنا إرثاً لا تقصفه رياح البشاعة، وترك لأجيالنا المقبلة مرآةً صافيةً متينةً عريقةً يتمرّى عليها كل جديد. وكما تحكُّ العصافير الزغبة مناقيدها على السنديانة الأم في الجبل كي تتعلّم خفق الأجنحة، هكذا كلُّ عمل فني جديد، من هذا الجيل الفني الطالع، فليحُكَّ معياره على الفن الرحباني الجمالي الذي ينقذه من السقوط في البشاعة.
يا عاصي: عشرون عاماً وأنت هنا، بين يد منصور والقلم، بينك هالتك ومواصلة منصور إيصال الرسالة، رسالة الجمال والفن الطالع من “السهر على الكلمة” و”التلمذة على ابواب الفن”، و”فرح الإنسان بولادة الجمال”.
يا عاصي: عشرون عاماً، وغيابك لا يزال ساطعاً أقوى من حضور.
أطال الله عمر غيابك.