هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

449: لبنان من مرصد شارل العشي

السبت 27 أيار 2006
-449-
المسافة بين رياق (البقاع اللبناني حيث كانت ولادته قبل 59 سنة) وباسادينا (لوس أنجلس/كاليفورنيا حيث يعمل منذ 35 سنة) لم تعُد ذات بال بعدما طال طموحُه المريخ الذي أنزل أول مركبة عليه بعدما تابعها تسير ملايين الكيلومترات.
الولد الذي كان يستلقي على سطيحة بيته في رياق وينظر الى الكواكب المتلألئة في ليل البقاع اللبناني، ويحلم صامتاً بأن يطال يوماً أسرارها ولا يجسر أن يبوح بحلمه لأحد خوف نعته بالخيالي، ها هو حقق ذاك الحلم وطال بعض تلك الأسرار وقدّم الى العلمِ خدمات، وقدّم العلمَ سنوات، فقدّم له العلمُ كويكباًً يحمل اسمه “العشي 4116”.
هذا الذي بلغ حدّ منحِ اسمه لكوكب في الفضاء، كيف ينظر الى أرضه الأم؟ منذ جاءنا، مطلع هذا الأسبوع، حتى مغادرتنا (غداً الأحد) وهو لا ينفكُّ يردِّد أمام الجميع: “أنا فخور بأصلي اللبناني”. ومَن يقول هذا؟ يقوله مَن حين يجلس في مكتبه (مديراً لمختبر الدفع النفاث، التابع للـ”ناسا”)، يرى الأرض (الأرض الكوكب كلَّها) من المريخ نقطة بيضاء صغيرة، فكيف بأميركا نفسها، وكيف بالشرق الأوسط، وكيف بلبنان الذي لا يتعدّى على الخارطة حجم نقطة بيضاء صغيرة؟
يفخر بوطنه الأول، هذا العالِم الكبير، وعلى مكتبه في باسادينا علمُ لبنان، هو الذي منحته أميركا جنسيتها باعتزاز فبات يزاول الاثنين معاً: ولاءه لأميركا التي أتاحت له تحقيق حلمه، ووفاءه للبنان الذي أتاح له الحلم، فما أنبله فيهما معاً، هو الذي مراراً ردّد هذا الأُسبوع لمستضيفيه والإعلام: “من لا يكون وفياً لِجذوره لا يستحقُّ جذوع أيِّ بلادٍ أخرى”.
في لقاءاته مع طلاب لبنان الجامعيين (وكم شديداً كان حرصه على التقائهم هم بالذات) لم ينفكّ يشدِّد على أن حدود الحلم هو الأفق اللاحدود له، شرط المثابرة والجد والجهد وعدم اليأس والإحباط، بل أكثر: أن يكون الفشل في المحاولات حافزاً على الإعادة والاستعادة والعودة مجدداً وتكراراً حتى بلوغ المرام. ولذا هو دائماً، في سبره الفضاء، يتمثل بالفينيقيين الذين سبروا البحار وفشلوا كثيراً وتعثروا مراراً لكنهم بلغوا أقاصي المحيطات والقارات، مثلما هو، هذا الفينيقي الطموح، من مرصده في المختبر، اخترق رهبة هذه القبَّة الزرقاء، وتتوقع وكالة الـ”ناسا”، بفضل هذا اللبناني الرائع، أن يترجَّل من عندها رائد فضاء على أرض المريخ بعد عقد أو عقدين من السنوات.
بهذا الفرح الكثير استقبلْنا شارل العشي بيننا هذا الأُسبوع، وبهذا الاعتزاز حتى دمع الغبطة، ولكن أيضاً بالغصة التي تنغِّص كل فرح واعتزاز وغبطة. فهذا الذي، من مرصده في باسادينا، يرى الأرض كلها من المريخ نقطة بيضاء، كيف سيرى لبنان على الأرض بهذا الموزاييك السياسي البشِع الذي يَتَدَايَكُ بعض أصحابه (كما الديوك) معتبرين أنهم يخططون لمستقبل الوطن والمنطقة والعالم فيما تخطيطهم ليس إلا لزواريب في الوطن أين منه ما يخطط العقل اللبناني في الخارج للعالم في فضائه الخارجي؟ بأيّ خجلٍ نسرد لشارل العشي ما يجري عندنا على المسرح السياسي، هو الذي أقربُ مسرحٍ يعمل عليه: كوكب المريخ؟ بأي منظار ينظر إلينا شارل العشي وسائر الـ”شارل عشيين” من أبنائنا العباقرة الذي يتابعون من نجاحاتهم في الخارج ما يجري عندنا في هذا الداخل السياسي المشين، وفي هذه البنية التحتية الأقل من بدائية؟
لـ”ديوان أهل القلم” تحية الشكران على استضافة شارل العشي لأننا نحن الذين تكرّموا بحضوره من مرصد باسادينا الى رصد لبنان، ولشارل العشي وأمثال شارل العشي أن يواصلوا نجاحاتهم اللبنانية في الخارج وولاءهم لعلم لبنان، وألاّ ينظروا الى لبنان من الخارج إلا من بعيد، من مرصد شارل العشي البعيد، كي لا يروا على الأرض ما يجري عندنا، وكي يظلُّوا في مجتمعاتهم يعتزُّون بانتمائهم الى أرضهم الأُم الغالية لبنان.