هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

438: وأخيراً… “لبنان أوّلاً وأخيراً”

السبت 14 كانون الثاني 2006
-438-
جاء وقتٌ كان فيه كلامي المنبري أو الإذاعي، وكتابتي (وخصوصاً في هذه الـ”أزرار” من “النهار”) عن “لبنان اللبناني” نوعاً من الـ”تابو” المحرّم ذِكْرُهُ وسط أوقيانوس من موجات العَربنة والغَربنة والإيديولوجيات المحلية أو المستوردة، فكانت تقوم القيامة وتقعد على يأفوخي من الأصدقاء (أو غير الأصدقاء) المنضوين تحت يافطات القومية والأممية والعروبة، وتروح اتهاماتهم (الوجاهية أو الغيابية أو الكتابية) تنهال عليَّ بقواميس الانعزالية والشوفينية والسعيدعقلية والتقوقعية، كأنما تهمةُ عارٍ أن ينادي الكاتب بوطنه أوّلاً قبل انهراقه بأوطان الآخرين. وغالباً ما كنتُ أشيح عن كل ردّ أو إجابة، معتبراً أن سيجيءُ وقتٌ آخَر يعود فيه هؤلاء الى ضميرهم اللبناني (أو سقفهم اللبناني أو وعيهم اللبناني) ويستدركون أنَّ “من يخرج من ثيابه يصفعه البرد” وأنَّ من ينكر وطنه في سبيل أوطان الآخرين لا بُدَّ ذات صباح، قبل صياح الديك، أن تتراءى له تينة يوضاس اليابسة فيستدرك ويتوب.
وجاءت الحرب “الآخرينية” على لبنان سبعة عشر عاماً (عدا ملحقاتها التالية حتى منتصف العام الماضي) فقويَت قناعتي بـ”لبنان اللبناني” أكثر من قبل، وانتظرتُ أن أُلاحظ تحوُّلاً لدى “الأُدلوجيين” و”المتأدلجين” و”الإدليلاجيين” لعلّهم يعانقون لبنان تائبين أو مستغفرين، فلم أجد لديهم حراكاً، وظلوا على قناعاتهم القومية والأممية والعروبية، فاحترمتُ لديهم قناعاتهم ولو انهم هم لم يحترموا يوماً قناعاتي.
الى أنْ… أخذت الموجة تتغيّر مؤخراً، لا لدى أولئك الأصدقاء (أو غير الأصدقاء) أعلاه، بل لدى السياسيين أنفسهم ولدى كبار أهل الحكم والقرار السياسي في لبنان، حين بدأنا (بفرحٍ كثير) نسمعهم ونتابعهم ونشاهدهم يبشِّرون بـ”لبنان أوَّلاً”، و”لبنان قبل كل شيء”، و”لبنان أولاً وأخيراً”، و”القرار الأول والأخير هو للبنان” و”ليفهم الجميع أننا في لبنان بلد مستقل سيّد حر”، و”القرار اللبناني يؤخذ في لبنان” و”لبنان هو وطن اللبنانيين بجميع أطيافه وطوائفه” و”الولاء للبنان أولاً وأخيراً”، و”لا علَم يعلو على العلَم اللبناني”، و”لا نشيد يتقدَّم على النشيد الوطني اللبناني”، الى سائر التصاريح التي يشهرها أصحابها بلهجة لبنانية رائعة وفي ثقةٍ سياسية ووطنية إذا استمرت هكذا ستستقطب حولها آلاف أنصار هؤلاء السياسيين فتتكاثر لبنانية الشعب اللبناني ويصبح في أكثريته العظمى ينادي بـ”لبنان أولاً” ويصبح “لبنان اللبناني” هو الحب الرائعُ الكبير الذي يجهر به اللبنانيون.
حين كنا نتشبّه بلبنانية ميشال شيحا وشارل قرم وشارل مالك وعادل عسيران ورياض الصلح ومجيد أرسلان وجبران تويني (“النهار”) وميشال زكور (“المعرض”) وكرم ملحم كرم (“العاصفة”) وسواهم من رواد مباركين رائعين كانوا ينادون بلبنانية لبنان في عز دين بطش الانتداب الفرنسي، كان تشبُّهنا بهم تهمة نُرمى بها. فهل كان ضرورياً أن يتهدَّد لبنان في أخطر مراحله الحديثة، كما يتهدد اليوم، حتى نفهم أنَّ “الرعاية” الدولية (ولبنان عضو في الأسرة الدولية) هي غير “الوصاية” الأجنبية (التي نرفضها حتى لو جاءت من نص دين الفاتيكان)، وأنَّ خلاصنا الوحيد – تجاه مواطنينا ومهاجرينا والدول الشقيقة والصديقة والإقليمية والعالمية – ليس إلاّ عناقنا معاً في إيمان واحد ويد واحدة وقلب واحد وصرخة واحدة بـ”لبنان اللبناني”؟
وكما نتذكَّرُ اليوم عهد كبار قادة فكر وقرار لبنانيين قاوموا السلطنة العثمانية فالانتداب الفرنسي وحوربوا واضطُهِدوا واستشهدوا في سبيل أن يبقى لبنان لبنانياً، هكذا فلنترك لأولادنا من زماننا أن يتشبَّهوا بنا في زمانهم فلا ينتظروا وصول لبنان الى حافة الخطر الحقيقي كي يتنبَّهوا ويستدركوا فينادوا بـ”لبنان اللبناني”.