هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

426: الوضع السياسي؟ شو يعني؟

الاثنين 26 أيلول 2005
-426-
العائد من الخارج (ولو بعد رحلة وجيزة جداً) يرتطم بمشاهدات عندنا تُثير فيه السؤال الغاضب: “لماذا عندنا هذه الغَابَوِيَّة”؟
نعم. غابة. وغابة متوحشة. وأدغال غابت عنها البدائية فامتلأت مسؤولين معظمهم لا يفعلون شيئاً لينقلوا الأدغال الى واحات أو لينقلوا الغابة الى مدنية أو لينقلوا السلطة الى دولة، أو لينقلوا الدولة الى أرفع من مستوى الدول المتخلّفة في العالم الثالث.
والعائد من الخارج يرتطم بما هو أدهى: حين يتساءل بصوت عالٍ عن كل هذا الذي عندنا من فوضى وتأخُّر وتخلُّف، يجاب بما هو أدهى بكثير: “وَلَو! ألا ترى الوضع السياسي في البلد؟ وهل هذا وقتها هذه التي شاهدتَها في الخارج وتطالب بها عندنا؟”.
الوضع السياسي؟ شو يعني؟ وما علاقة الوضع السياسي بوضع طرقات (حتى بعض الرئيسَة منها والدولية) صارت جل بطاطا وليس من يسعى الى تزفيتها كي لا تبقى مدرّجات وحُفَراً ومطبّات وتشقُّقات وعتمة،… بلا خطوط بيضاء ولا تزفيت ولا أدنى صيانة!
ما علاقة الوضع السياسي بفوضى السير على الطرقات: من يتجاوزون زيكزاكياً بين السيارات، ومن يرمون نفاياتهم من نوافذ السيارات، ومن يقودون دراجات نارية راعدة (خصوصاً في الليل)، ومن يسيرون بسرعة جنونية ولا رادع، ومن يَعبُرون التقاطعات على الضوء الأحمر، ومن يستخدمون سيارات أصبحت خطراً عليهم وعلى ركابهم وعلى المشاة والناس جميعاً بوضعها الميكانيكي السيّئ أو بدخانها الأسود القاتل، ومعظم هذه التجاوزات تحصل تحت أنوف رجال شرطة سير مثل “خيال الكُروم” لا حضور لهم ولا هيبة ولا سلطة ردع ولا محاضر ضبط، كي لا نذْكر غيابهم عن معظم الطرقات أو وجودهم فيها إنما لاهين ساهين مسترخين!
ما علاقة الوضع السياسي بالفوضى في إعطاء رخص البناء وبالفضائح في الضمان الاجتماعي وبالتقصير في جباية الفواتير وبالكوارث في القطاع الصحي وبالإهمال الفوضوي في القطاع التربوي والقطاع الزراعي وقطاع الاتصالات والمواصلات؟
ويكبر السؤال، يكبر: كيف يصرف الموظفون في دوائرهم معظم ساعات دوامهم في مناقشات سياسية واصطفافات سياسية وتحزُّبات وفئويات سياسية منصرفين عن شؤون الناس بحجة “الوضع السياسي” حتى أُصيبت الدولة كلها بالشلل الذي يغتال مسيرتها!
الوزراء منصرفون عن وزاراتهم الى التصاريح السياسية؟ الوزراء أصلاً مؤقتون عابرون في مناصب سياسية مؤقتة عابرة وقليلون بينهم من “يُبدعون” فكرة لوزاراتهم. ولكن ماذا عن المدراء العامين ورؤساء المصالح والدوائر والأقسام؟ ما الذي يؤخرهم عن تنفيذ ما عليهم تنفيذه للبُنْية التحتية ولتسيير شؤون المواطنين بصرف النظر عما “يطبخه” جهابذة “بيت بو سياسة” من أوضاع وأحداث؟
سياسة… سياسيون… وإذا بمجتمعنا كله يتحول تنظيريين سياسيين يهدرون وقتهم (بل عمرهم) في التناهُش السياسي ومتابعة برامج الـ”توك شو” السياسية والحماسة لهذا أو ذاك حتى باتت أحاديثهم وسهراتهم وجلساتهم واجتماعاتهم ولقاءاتهم حلقات سياسية!
الوضع السياسي مضطرب عندنا؟ شو يعني؟ في جميع بلدان العالم أوضاع سياسية مضطربة لكنَّ الدولة تقوم بواجباتها وتسير في انتظام بكل أجهزتها وموظفيها، والمواطنون منصرفون الى أعمالهم وانشغالاتهم ومصالحهم ولا يصرفون على السياسة إلا بضع دقائق مسائية في نشرات الأخبار من دون أن يوقفوا حياتهم الاجتماعية أو الفنية أو الثقافية أو يهدروا عمرهم في المناقشات السياسية.
العائد من الخارج (ولو بعد رحلة وجيزة جداً) ويرتطم بحيطان بلده مملوءة صوراً وشعارات ويافطات انتصاراً أعمى لهذا أو ذاك من “بيت بو سياسة”، لا يملك إلاّ أن يقول “تفوووو”… ويلعن ساعة ولادته في العالم الثالث والثلاثين.