هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

425: إلى حفيدي في عامه الأول

السبت 17 أيلول 2005
-425-
قبل عامٍ من اليوم (“أزرار” 374- السبت 25 أيلول 2004) نَدَهَتْني عيناكَ المُغْمَضَتان من طفولة، وكنتَ لا تزال في أسبوعِك السادس. واليوم، تندهني عيناك المفتوحتان على الطفولة، وأنت في الأسبوع السادس بعد عامك الأول. فَبِمَ أجيبُهُما؟
لو تعلم كم أتعلّم يا صغيري منهما، وسوف أتعلّم منك كيف أعود الى عناصري الأُولى.
ولو تعلم كم أنني، وأنا ألاعبك، أُلاعبُ حاضرَك المجهول منك والمعروف مني، وأنت تلاعبُ مستقبلي المجهولَ منك ومني.
وحين تبسم قبالتي ويَبان سنّاك اللؤلؤيان، ينكشف لي صبحان عن عمر بطعم الربيع. وحين تضحك لي ويموج صدرُك، يطير من صدرك عمرٌ أخضرُ يَحبو الى الأُفُق البعيد.
وحين تلهف إليّ كي أحملك على ذراعِي، أحمل في هيكلك الصغير هياكل الحب في مرابع الطفولة. ولأول مرة في حياتي يَحدُث لي (حين أنتَ على ذراعي) أن أتخلى بي عن “أنا” الكاتب الأنيق القلم لأتعرف على “أنا” آخَر لم أكن أعرفه بي: “أنا” الجَدّ الأنيق الحنان.
وحين أُمضي معك ساعاتٍ حُلْمِيَّةً أتمدّد فيها على الأرض حَدّك، أو أزحف خلفَك وأنت تهربُ مني ضاحكاً وتظُنُّ أنك أنتَ تلاعبني، أو أحملك على كتفيَّ وأنت تضرب رأسي بكفّيك الحليبيَّتين غير مدركٍ ما في هذا الرأس الذي تضربُهُ بسعادة الطفولة، لا أكون في هذه الساعات الفريدة الممتعة أعطيك من وقتي، بل أكون أنا آخُذ من وقتك لكي أسعد بك أكثر مما أنت تهنأ معي، وأكون أستعير لكهولتي الآتية نُسغاً من براءتك يناشدُك: “عَلِّمني براءتَك”، هَرَباً من الرحيل الأخير.
يا حبيبي: في مقاليَ السابق (العام الماضي) كان حزني كبيراً أمام طفولتك الأولى أنك لن يجيء يوم وتقرأُني. يومها (واعذُر أنانيتي يا صغيري) كنتُ أخاف عليّ قبل أن أخافَ عليك. كان هلعي عالياً كجبلٍ يحجب عني فجراً لن يطلع بعدي. واليوم، لعلّ حنان الجَدّ بي يقوى على أنانية الكاتب بي فأُقنِعُني (؟!) بأنْ ما هَمَّ إن لم تقرأْني في لغتي طالما سأجيء أنا إليك لأقرأ في عينيك نتاجاً لي لا تَحُدُّه الكلماتُ لأنه لا لغة مكتوبة له بل مُعاشةٌ بلا كلمات، هي لغة الحب الذي يتناقل من جيل الى جيل.
يا سيّد جيلي الثالث: في رخاء الكنف ولدتَ، وفي هناء العيش تكبر، وفي بلادٍ هي سيّدة الدنيا ستعيش. فعسى ما حُرِمْتُهُ في طفولتي وما حُرِمَه أبوك في طفولته، لا تُحْرَمُهُ أنت في شبابك ومسيرتك. وإذا كان لك يوماً أن تزور بلاد أبيك وجدّك، والبيت الذي وُلِد فيه أبوك، فلا تنظر إليه من قمة رخائك، بل اخشع أمام تقشُّفه مرتين: أُولى افتخاراً بأبيك الذي طار من عش التقشُّف وبنى مملكته التي ستؤول إليك، والأُخرى اعتزازاً بجدّك الذي بنى في هذا التقشُّف مملكة للأدب لن تؤول إليك لكنها ستكون مرنى أتراب لك سوف يعرفون عنك ولن تعرفهم، وقد (؟!) تتناهى منهم إليك، عبر الأطلسي، أَصداء عن صاحب هذه المؤلفات في مكتبة أبيك تتوقَّف أنت أمامها عند حدود أغلفتها فلا يعبق لك منها نفَس واحدٌ من داخل أيّ غلاف.
وإذ أُخاطِبُكَ اليوم في عامك الأول ولا يَبْلُغُكَ ما أقول، آمَل أن يجيء يومٌ يُبْلِغُكَ فيه مَن ينقل إليك في لغتِك ما قلتُهُ لكَ في لغتي. وآمَل أن تتكرّر لقاءاتُنا عاماً بعد عام حتى (ربّما!) يجيء يومٌ أقول لك في لغتِك ما يَبلُغُك مني فيكون صوتي إليك جسرَ لقاءٍ متواصلاً بيننا، لا ينتهي في مقال، ويرافقك عاماً بعد عام، بقية الأعوام، الى ما بعد رحيلي عن هذا العالَم.