هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

420: فنتعلَّم من ابرايهم الحاقلاني

السبت 13 آب 2005
-420-
لم أَعِ يوماً حجم مقولة “عالِمٌ كماروني” مثلما حين اطّلعت على سيرة ابرهيم الحاقلاني (من حاقل- بلاد جبيل) في مؤتمرين هيّأ لهما المهندس يوسف طربيه (جامعة سيّدة اللويزة في آذار الماضي، وبلدة حاقل هذا الأسبوع) لمناسبة الذكرى المئوية الرابعة (1605- 2005) لولادة هذا اللبناني الكبير (توفي في روما سنة 1664 عن 59 عاماً).
فما الأكثر خصباً من أن يكون ترك 51 مصنَّفاً (34 في الفاتيكان حيث عاش ودرَس ودرَّس في روما وبيزا وفلورنسا، و17 في باريس حيث درَّس العربية والسريانية في المعهد الملكي الفرنسي، “الكوليج دو فرانس” لاحقاً واسمه محفورٌ على مدخله، وكان مترجمَ القصر الملكي الفرنسي أيام لويس الثالث عشر ولويس الرابع عشر، وعلى علاقة وُثقى بريشْليو ومازاران)!
وما الأكثر ثقةً به من أنه كان الممثل الشخصي لفخر الدين (في الشؤون العسكرية والسياسية والاقتصادية) لدى دوق توسكانا، والمستشار الخاص للبطريرك (في الشؤون اللاهوتية والطقسية) والممثل الشخصي للبطريرك الماروني لدى الكرسي الرسولي في روما، كون الحاقلاني من أبرز خريجي مدرسة روما المارونية (مع رفاق له علماء كبار: يوسف سمعان السمعاني من حصرون، جبرائيل الصهيوني من إهدن، البطريرك أسطفان الدويهي من زغرتا، المطران جبرائيل ابن القلاعي من لحفد،…)!
وما الأكثر “علميةً” من أنه كان “ملفان” فلسفة ولاهوت، شارك في كتابة الإنجيل الى سبع لغات، وكان بآثاره ومآثره من مؤسسي الاستشراق في أوروبا وطليعيي العاملين في حوار الثقافات والحضارات (كما تُبرزه مؤلفات موثّقة صدرت عنه)!
وما الأكثر “لبنانيةً” من أنه، ولبنان تحت السيطرة العثمانية، اشتغل على تركيز كيان الإمارة اللبنانية وسائر مناطق الجبل والشمال بكل طوائفها، فوظّف علاقاته وصداقاته لخدمة شعبه في جبل لبنان (لبنان تلك الفترة) حتى ليمكن اعتباره من أبرز روّاد فكرة الكيان اللبناني (كما هو اليوم) ومن الرعيل الأول لدعاة تكوين ما بات لاحقاً لبنان الحديث.
هذا العالم اللبناني الاستثنائي، مَن الأجدر منه أن تبادر الدولة (عبر مؤسسة المحفوظات الوطنية، مثلاً) الى الحصول على نسخ مصوّرة من مؤلفاته (ميكروفيلم أو سي.دي.) تكون مراجع مهمة بين أيدي الباحثين، وأن تبادر الى شراء أربعة كتب له معروضة للبيع حالياً لدى مكتبة في ستوكهولم وأخرى وفي باريس بمبلغ 9210 يورو (نحو 11.000 دولار أميركي) وهو مبلغ لن تعجز عنه الدولة إن ارادت فعلاً أن تستعيد بعض تراث هذا العبقري اللبناني.
إنها دعوة ليست للدولة وحسب (فلعلّها الأكثر فقراً بين اللبنانيين) بل دعوة للجامعات والمؤسسات الكبرى كي تبادر فتقتني آثار هذا اللبناني “جداً” وتضعها في متناول جيل جديد من لبنانيين يكادون لا يعرفون من لبنانهم العريق الحضارة إلاّ نتفاً من عناوين باهتة، وقليلاً من نتاج أبنائه المنتشرين، وكثيراً من أخبار سياسيين لا يجدون ساحة يستغلّونها أفضل من أبنائنا الثانويين والجامعيين يُحمِّسونهم ويغسلون أدمغتهم الطرية ويُفلتونهم يُهَوبرون في الشوارع ويتحزَّبون لهذا أو ذاك من سياسيي هذا العصر.
من أُولى أَولويات أبناء الجيل اللبناني الجديد أن ينبذوا طقماً سياسياً لن يوصلهم إلاّ الى الفئويات والاصطفافات المجانية، وأن يبادروا الى الإشاحة عن أشخاص “بيت بوسياسة” العابرين، والانصراف للتعرُّف الى لبنان الدائم الحضارة والفكر والتراث كي يستطلعوا مستقبلاً لـلبنان لا يبنيه إلاّ كبارٌ مترسلون للعلم والفكر والحضارة من طراز العبقري اللبناني ابرهيم الحاقلاني.