هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

395: حين الشِّعر أقوى من سلطة الحاكم

الجمعة 18 شباط 2005
-395-
قبل أيام، تداول الإعلام الأردني (وعنه معظم الإعلام العربي) قصيدة قالها شاعر. وبين غابة أخبار سياسية تحمل عادةً تصريحات السياسيين وأخبارَهم وأقوالهم ومواقفَهم (ومعظمها مُمِلٌّ ومعلوك) برز نصُّ قصيدة قالها شاعرٌ في حكومة بلاده ونَخَرَت وجدانَ شعبه فتناقلتها وسائل الصحافة والإعلام نَجماً ونجمة. النجم: حيدر محمود، الشاعرُ الأردني الكبير (وذات يوم وزيرُ الثقافة)، والنجمة: قصيدتُه في حكومة بلده عارضاً مثالبها بقسوةِ ما للشِّعر من هيبةٍ ووقعٍ وسطوة.
هنا المحور والشاهد: ما للشّعر من هيبةٍ ووَقع وسطوة. فالحاكم لا تُخيفه الخُطَبُ السياسية بقدْر ما يُخيفه الشِّعر. وذات يوم دخلت اجتماعَ الكنيست الإسرائيلي مناقشةُ قصيدة محمود درويش “عابرون في كلام عابر”، وكانت عشرات الخطب السياسية الفلسطينية لا تحرك ساكناً في حاكم إسرائيلي.
سطوة الشِّعر هنا ذات حدّين: الأول يرفعُ الحاكم بهيّ الحضور، والآخر يَجعله سخريةً على لسان الناس. وبهذين الحدّين يبقى الحاكم في التاريخ متوسّلاً هيبة الشاعر فيذكره التاريخ إذ يذكر الشاعر. وكم من حاكم كان سيغيب في مجاهل النسيان لولا دخولُه في شعر شاعر.
مَن كان سيذكر كافور الإخشيدي لولا المتنبي الذي سلخ جِلدَه بشِعر أقسى من المقصلة حين قال فيه:
لا تشتر العبد… إلاّ والعصا معه إن العبيدَ لأنجاسٌ مناكيد
لا يلمس الموت نفساً من نفوسهم إلاّ وفي يده من نتْنها عودُ
ومن كان سيذكر، من عهد المتصرفية في لبنان، المتصرف العثماني الرابع واصا باشا الذي اشتهر بحبّه المال وانتشار الرشوة في أيامه، لولا قول الشاعر اللبناني تامر الملاّط فيه:
قالوا قضى واصا ووارَه الثرى فأجابتُهم وأنا العليمُ بِذاتِه
رنّوا الفلوس على بلاط ضريْحه وأنا الكفيل لكم بِرَدّ حياتِه
وملايين هم الذين تابعوا، وما زالوا يتابعون وسوف يتابعون، مؤتمرات القمة التي يعقدها الرؤساء والملوك من كل الدول العربية. حفنة عشراتٍ يذكرون مقررات تلك المؤتمرات وتوصياتها التي نادراً ما يرى الشعب تنفيذها، لكنّ آلافاً من المهتمّين يتذكّرون أبيات عمر أبو ريشة في الحكام العرب (يوم مؤتمر القمة العربية في الرباط) حين تناولهم بقصيدته في ذكرى الأخطل الصغير (1969) فقال عنهم:
إن خوطبوا كذبوا… أو طولِبوا غضبوا أو حوربوا هربوا… أو صوحبوا غدروا
على أرائهم- سبحانَ خالقهم- عاشوا وما شعروا… ماتوا وما قُبروا
خافوا على العار أن يُمحى، فكان لَهم على الرّباط، لدعم العار، مؤتَمَرُ
وديوان الشِّعر العربي، قديمه والمعاصر، مليءُ بقصائد شعراء انصبّت حمماً على حاكم فرمَّدته سخرية شعبه، أو انهملَت أزهاراً على حاكم فرفعته قبلة تأريخ بلاده.
بلى: الحاكم لا تُخيفه الخطب السياسية. الحاكم يُخيفه الشِّعر. الخُطَبُ السياسية تُمضي. تَعبُر. تغرق في النسيان. والقصائد تبقى. تَخرُق. تتواصل في ذاكرة الأجيال.
إن سلطة الشِّعر أقوى وأرقى وأبقى من سلطة الحاكم، لأن الشاعر باق أمس واليوم وكل يوم، أما الحاكم فيُمسي “الحاكم السابق” ذات يوم، ولا يبقى من ذكره إلاّ ما تلطّى به في قصيدة شاعر.
ويا ويل حاكم يُخطئ، فيَجْلُدُه قاسياً لا سوط معارضيه بل شِعرٌ مُقْذِعٌ يقوله فيه شاعر.