هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

387: نصائع أنطون غطاس كرم

الثلاثاء 28 كانون الأول 2004
– 7 8 3 –
لم تَعُد “دار النهار” مُجرّد مؤسسة للطباعة والنشر والتوزيع، بل تَحوّلَت (بإصداراتِها ومؤخّراً بـ”مكتبة البرج” المُلحقة بِها) رسالةً ثقافيةً وتراثيةً لبنانيةً تؤرِّخُ حقبةً راهنةً وسابقةً من إرثِ لبنان الأدبيّ والثقافيّ والصحافيّ والتراثيّ.
جديدُها الأخير: المَجموعة الكاملة (في 6 أجزاء) لكبيرنا في النثر أنطون غطّاس كرم منذ أقدَمِها “أبعاد” (1944) حتّى أحـدَثـِـــها: الترجمة الفرنسية لـــ”كتاب عـــبـدالله” (1993 بمقدّمة جاك بيرك) مروراً بـ”الرمزية والأدب العربي الحديــث” (1949) و”كتاب عبدالله” (1969) ومحاضرات “في الأدب العربي الحديث والمعاصر” (1979) و”جبران في حياته ونتاجه الأدبيّ” (بالفرنسية 1981). وإذا كنتُ لم أقرأ ترجمة عز الدين غِلُّوز الفرنسية بعد، فبين يديَّ خمسُ روائع أتمتّع بإعادة قراءتها مُستعيداً متعةَ قراءاتها السابقة التي كم تأثّرتُ بِها (وهل “كتاب عبدالله” أقلّ من مدرسة في الأدب؟).
الأنيقُ حّتى دِقّة الرهافة، الشفيفُ حتّى رقّة الفراشةِ وزناً وحضوراً، الثقيفُ وما أغنى ما رَشَفنا منه كاتباً وأستاذاً ومحاضراً ومحاوراً ومنتدياً لَمّاعَ جمال، ها مجموعته الكاملة أخيراً بين يديّ قارئها بأناقةِ شكلٍ تستاهلُها أناقةُ المضمون.
لا أقاربُه هنا مُراجعاً ولا قارئاً، بل مؤكّداً – على ضوءِ أدبه العالي- ما بدأتُ به في المقالين السابقَين (“أزرار” الأسبوع الماضي و”أزرار” الأسبوع الأسبق) من احترام أهمية النثر فناً عظيماً في ذاته، مكتفياً بذاته، راقياً وعالياً في ذاته لا يحتاج تقريبه من مفردات قاموس الشِّعر لإعلاء شأنه أو تمرير ضعفٍ فيه لا يستقيمُ إلاّ إذا أضفنا إليه صِفاتٍ من فنّ الشِّعر (قصيدةُ نثر، شِعر منثور، نثر شعريّ، …). وليس ينقذُنا من هذه الهرطقات المتحجِّجة بـ”الشِّعر الحديث” إلاّ فارسٌ عظيمٌ من طراز أنطون غطّاس كرم يتلمّظ نثرهُ بمتعة الخلق الإبداعي فيصوغه نسيجاً “سهلاً ممتنِعاً” على أعلى مستوًى من النّحت الجماليّ والموسيقى الميلودية ونقاوة اللفظة والعبارة والتعبير بِما لا يُعطى إلاّ للقلّة من المبدعين.
أنطون غطّاس كرم سيّد الجماليا في الأدب (والجماليا = “الإستيتيك”، هي غيرُ الجمال). فهو جماليائيٌّ بامتياز، تَماماً كالخيميائيّ الذي يحوّل الكلمة القاموسية إلى رنين ذهب، حتّى إذا تجانَبَت الكلمات المِرْنانةُ، في عبارةٍ إبداعية، شَعَّت من الكلمات أنوارٌ سعيدةٌ تجعل النصّ الأدبيّ تحفةً من صَوغٍ وعباراتٍ وتعابيرَ وتراكيب لا يُتقنُها إلاّ من كان من وزن أنطون غطاس كرم الذي، على إيقاع نبضه، يتقن الصائغ صقل جواهره، ويُهندسُ العطّار مقادير الرّحيق في تركيب العطر.
مذهلٌ هذا الأنطون غطاس كرم في امتشاقه القلم ونحت النثر أصعب، أحياناً، أصعب من إبداع قصيدةٍ موغلةٍ في جذور الكلاسيكية المتينة. فالأدب فنّ. والفن جمال. ولا يبلغ صوغ الجمال إلاّ قليلون أصفياء متنوّرون تؤتى لهم الصعوبة مسلِسةً أمرها إليهم ليقينِها أنّها على مشافِر أقلامهم تصبح صعوبةً ذائقةً ذوّاقةً ممتعة المذاق. وقياساً على قول أمين نخلة إنّ “الفنّ يحيا بالصعوبة ويموت بالسهولة والاستسهال” يكون أنطون غطاس كرم سيّداً من أسياد نثر قلائل يباهون بنثرهم العالي الراقي الصعب الجماليائيّ عشرات القصائد وكتب الشِّعر غير شاعرينَ بأنّ نثرهم أدنى من الشِّعر.
في مقدّمة كتابه “الأدب العربي الحديث والمعاصر” كتب أنطون غطاس كرم: “أنا قارئ يبحث عن ذاته في ما يتلو”. فما أهنأنا، حين نقرأ أنطون غطاس كرم، نبحثُ في ذاتنا عن الذات الجماليائيّة للنثر العالي الذي طوبى لنا حين نؤتاهُ جماليائياً ونكتبه إبداعياً بمسحةٍ نصائع مباركةٍ من زيت أنطون غطاس كرم.
تحيّةً للإبن الوفيّ شادي أنطون كرم لحرصه على حفظ تراث أبيه، وشكراً لـ”دار النهار” قدّمت لنا هذا التراث في أبهى ما يليق بإرث أدبي لبناني فريد.