هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

385: الشاعر شوقي بزيع… ناثراً

السبت 11 كانون الأول 2004
– 385 –
عن خليل رامز سركيس: “كان أبي، إذا قرأ قصيدةً معجبة أو نثْرَةً رائعة، طرب وقال: “الله، الله، هذا قصر. لا شِعر ولا نثر”. وعن المنفلوطي: “بدأْتُ حياتي الأدبية بقرض الشعر فجُلتُ فيه حيناً. وكأنّ روحاً خفيّةً طافت بي وأوحت إليّ فنبذتُ الشعر مكاناً قصياً وانقطعتُ الى صياغة النثر. وهكذا كنتُ شاعراً لا يكتب فقرة فأصبحت كاتباً لا ينظم شطرة”.
ومع كبير إعجابي بنثر خليل رامز سركيس المشغول فنياً بالنحت الجمالي، وضئيل إعجابي بنثر المنفلوطي السردي التقريري، يبقى شاهدي هو الفصل بين هذين الفنّين العاليين، من دون المزج بينهما بـ”شعر منثور” ولا بـ”نثر شعري”، ويبقى أن كلاًّ منهما فنٌّ عظيم قائم في ذاته، ويا طوبى لِمن يعطى نعمة الإبداع في الفنَّين معاً.
حين دفع إليّ صديقي شوقي بزيع بكتابه الجديد “أبواب خلفية” قال لي: “هذا توأم شعري”. وحين فهمتُ أنه كتاب في النثر وهنّأْته على قولته، أردف: “شئته أن يلغي مقولة ابن ست وابن جارية بين الشعر والنثر”.
هكذا، قبل أن أقرأ كتابه، وضعني شوقي في حالةٍ أؤمن بها وأعمل لها، حتى إذا قرأْته – بشغف ما أقرأ به شعره – سعدتُ لشوقي ناثراً متمكناً بقدرما أعرفه، وأحب فيه، شاعراً متمكناً. وبـ”التمكُّن” هنا أقصد براعة الشاعر في قول ما يريد قوله من ضمن الأصول والقواعد، كلاسيكيِّها (العمودي التقليدي) أو نيوكلاسيكيِّها (قصيدة التفعيلة)، فتخرج من بين يديه القصيدة لابسة حلّتها الأجمل، مضموناً قوياً شاعرياً عالياً يستقبله شكل أنيق بارع.
علامة شوقي أنه – كسائر المتمكّنين شعراً ونثراً – صاغ نثره بالدقة نفسها والشغل نفسه والنحت نفسه الذي به يصوغ قصيدته قطعةً متماسكة على جمال، فجاء كتابه نثراً متماسكاً على جمال، والفن العالي هو دائماً ابن الجمال.
من هنا الفرح بكتاب شوقي. فليس معطى لكل شاعر متمكّن أن يكتب نثره بالتمكن ذاته، ولا لكل ناثر كبير أن يبدع في الشعر إبداعه في النثر. وفي الشعر العربي نماذج كثيرةٌ لشعراء مُجيدين حين خرجوا من حالة القصيدة كتبوا نثراً عادياً تقريرياً لا لمعة فيه، وناثرين مُجيدين قاربوا الشعر فظلوا نثريين في قصائدهم التي لم ترتفع لمعة واحدة عن النظم.
علامة الشاعر الشاعر أن يُنسيك النظم في قصيدته، وعلامة الناثر المبدع أن يهدهدك نثره برعشة الصياغة. من هنا هيبة الإبداع التي تفرضها القصيدة (في الشعر) والنضيدة (في النثر). ومن هنا ندرة من يتمتعون بنعمة أن تفتنك قصيدتهم بقدرما تفتنك نضيدتهم. وهو ما تنبّه له شوقي في مقدمة كتابه فسماه “التوأم الجميل للشعر”، واعترف: “أنا واقع منذ زمن بعيد في تلك الفتنة الطاغية التي يوفّرها النثر للكاتب والقارئ معاً”، وجرُؤ أكثر فباح: “قصائدي تشكّلت في إطار نثري قبل أن تأخذ طريقها الى الشعر”.
هنا نحن إذاً أمام شاعر مفتون بالكلمة، متمكّن يحترم شعره ونثره، من دون أن “يتنازل” (والتعبير له) عن شاعريته في نثره ومن دون أن يعتبر أنه، شاعراً، يتفوّق على ذاته ناثراً. ومن يصوغ نثره صياغتَه شعرَه، بدقة الجوهرجي الصناع ودقة التركيب الذي يتمّ في جونة العطار، يكون فعلاً فارس اللغة. ومن كان كذلك أطاعته اللغة لقصيدته ونضيدته معاً، لأنه سيُطلع منها، شاعراً أو ناثراً، تحفة فنية مشغولة بمخاض الولادة الذي يتطلّبه كل نص إبداعي.
وهكذا فَعَلَ شوقي بزيع.