هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

381: دروس من السياحة الدينية في الأردن

الأربعاء 17 تشرين الثاني 2004
البحر الميت (الأُردنّ) -381-
قبل انطلاقنا الى البحر الميت، اقترح مرافقنا نوفل التعريج على “المغطس”، المكان الذي اعتمد فيه يسوع المسيح من يد يوحنا المعمدان على ما جاء في إنْجيل مرقس 1/9: “… وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الْجليل واعتمد على يد يوحنا في نهر الأُردُنّ”. وبعد شرح نوفل عن عمّان وتلالها السبع (اليوم دوَّار على كل تلّة) وتحَوُّل حلم الشريف حسين من المملكة العربية الكبرى في سورية الى شرق الأُردن ثم اقتطاع اليهود القدس والضفة الغربية في ستة أيام 1967، أكملنا نزولاً حتى أشار نوفل الى يسارنا: “هذا هو جبل نيبو موطئ الأنبياء ابرهيم ويعقوب وموسى وإيليا ويوحنا المعمدان”.
وما هي حتى انعطفنا يميناً الى “المغطس” في ناحية “بيت عَنْيَا”، حيث كان للسيارة حدٌّ فترجَّلنا. وكنتُ قبل سنتين زرتُ المكان برفقة السفير اللبناني في الأردن أديب علم الدين، فإذا به اليوم مستصلَح أفضل: على المدخل بوابةُ قطع التذاكر لوزارة السياحة، ثم باحةٌ فيها باص نظيف مكيَّف انطلق بنا الى أسفل وادي “غور الأردنّ”. ومن هناك ترجّلنا في مسلكٍ مرتَّبٍ ذي أرض إسمنتية نظيفة ومتّكأين خشبيَّيْن، ومررنا تحت أشجار ظليلة حتى بلغنا مكاناً قال عنده دليلنا نور الدين: “هنا يوحنا عمّد يسوع الْمسيح” (“خمسة أميال شمال شرق البحر الميت” كما نقل نور الدين عن المستشرق دانيال الروسي)، وإذا المكان مؤهّل، مصوَّن، تظهر فيه أدراج قديمة طالعة من رمل كان في القديم مجرى النهر لكنّ عوامل طبيعية مع العصور غيّرت مجراه. ثم أكملنا الى كنائس يوحنا الثلاث متأملين على أرضها الفسيفساءات المصانة بكل دقة. وأكملنا أبعد حيث كنيسة يوحنا المعمدان الأرثوذكسية (من القرن الخامس) فوجدنا فيها ثلاثة فنانين من اليونان يرسمون (بتكليف من السلطات الأُردنية) جدرانياتٍ أيقونيةً ترمز الى معمودية يوحنا ومشاهد أخرى من العهد القديم.
عند طرف المسْلك المرتّب المستصلَح بامتياز، بلغنا ضفة نهر الأُردن، في استراحة خشبية جعلتها الدولة لائقةً بالسياح وبِما من أجله يَحُجّون. صلينا خاشعين أمام مياه نهر الأُردن، حتى إذا استدرنا عائدين تعمّدتُ أن أسأل نور الدين عن منبع النهر فقال مستغرباً سؤالي: “هذا من عندكم، يا أُستاذ، من مياه جبل الشيخ في لبنان، من قمم الحرمون”.
في طريق العودة سيراً عبر المسلك نفسه، سألتُ نور الدين عن حجم السيّاح الى المكان، فقال إنهم لا يقلّون عن الألف أسبوعياً، وهو يرافقهم في هذه الرحلة (طولها نصف ساعة) لا أقل من عشر مرات يومياً، ورفاقه الأدلاء لا يقلّون عنه مرافقةً وشرحاً وعدد مرات. ألف سائح أُسبوعياً! ومدخول للدولة مُحترَمٌ من سياحة دينية عرفت السلطة الأردنية كيف تُحسن تصنيعها السياحي فباتت نقطةَ جذبٍ مقصودةً من كل العالَم.
في الباص ونحن عائدون من المسلك الى مدخل “المغطس” كان الى جانبي أجنبي خلته يابانياً، فإذا به مهندسٌ سنغافوري يعمل منذ سنتين في ترميم البنية التحتية بقرض ياباني من 77 مليون دولار للتأهيل السياحي في الأُردن.
فمتى نتعلّم من الأُردنّ ونستثمر (سياحياً) قانا ووادي قنوبين (وهي على لائحة التراث العالمي) ومدفن الأُوزاعي ومقامات وواحات ومزارات مقدسة تشكِّل مورداً هائلاً فتصبح السياحة الدينية عندنا جذعاً أساسياً في مواردنا السياحية؟