هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

370: “تساؤلات” أنيس مسلِّم ونصاعة النثر

السبت 21 آب 2004
– 0 7 3 –
لماذا يستحي كَتَبَةُ النثر بنثرهم فيلصقونه بقاموس الشعر (كاتبهم شاعر، ومقطوعتهم قصيدة، ومجموعتهم ديوان) واهمين بأنهم يَرفعون من قيمة نثرهم فيما هم يُهينون النثر ولا يبلغون الشعر؟ ولماذا لا يفهمون ولا يقتنعون بأن النثر في ذاته فنٌّ عظيم، كما الشعر فنٌّ عظيم، فلا يَحتاج النثر الى نعْته بـ”الشعر” كي يصبح “مهمّاً”، ولا يضير الناثر أن يكون ناثراً جيداً وأديباً كبيراً فلا يَحتاجُ أن ينادى به “شاعراً” كي يرفع من قيمة كتاباته؟
هذا الكلام نفسه ينسحب، وبِحُكْمٍ أقسى، على الذي “يَتَلَطَّون” خلف الوزن والبحر والتفعيلة والقافية والروي والصدْر والعَجُز فلا يكتبون سوى نظم ثرثار أو نثر منظوم، ويُصِرُّون على أن يكونوا “شعراء” ومنظوماتهم “شِعراً”.
فلا يُفهَمَنَّ من كلامي إذاً، أنني أَتعصَّب لكلِّ ما هو “منظوم” فأعتبره “شِعراً”، لكنني، وبِحُجَّة أَولى، لا يُمكنني أن أقبل أيَّ كلامٍ مكتوباً بأسطر عمودية قصيرة فأقتنع بتسميته شعراً أو “قصيدة” نثر أو شعراً منثوراً أو شعراً “حديثاً”.
الأمر واضح: النظم يبقى نثراً منظوماً لا شِعْرَ فيه، والنثر ذو مرتبات ثلاث: الكتابات الصحافية والنصوص العادية، فالنثر الأدبي المشغول، فالنثر الفني الجمالي المنحوت بإزميل أمين نخلة (المفكرة الريفية) أو الإمام علي (نهج البلاغة).
الدكتور أنيس مسلّم، في جديده “تساؤُلات” (بعد كتابه السابق “أيام الزهر”، وبعد ترجمته الأنيقة لرائعة طاغور “سلة الفاكهة”) يُواصل مسيرته النثرية العالية التي يَنحتُ فيها عبارته بإزميل جماليّ، ويتنخّل كلماته بِمجهرٍ متأَنٍّ نظيف، ويطرّز جُمَلَه بِحركات الوقْف التي هي التنفُّس الأجمل للكلمات والعبارات والْجُمَل، تطريزاً تشكيلياً يزيدها جمالاً.
في مقدمته الأطروحة (“من رياض الذهن الى إشكاليات الحياة”) أصاب العميد أنيس مسلّم عمق الكتابة الجمالية تنظيراً حول النص وصاحب النص وحالات الكتابة، لتجيء نصوصُ الكتاب الثلاثة والثلاثون تأْكيداً تطبيقياً على الطرح التنظيري في المقدمة، تتتالى في ثلاثة أبواب (“غمْرٌ من سخاء الفقراء، “حزْنٌ في ظلال الرجاء”، “عَوْدٌ الى أزمنة التجلِّي”) ينافس كل نصٍّ رفيقه في بَهاء الْجماليا الأدبية وجمال التعبير الأدبي. وهو في ذلك يواصل النثر الفني الناصع النظيف النقي البهي العالي الذي ذُقْناهُ مع أمين نخلة وأنطون غطاس كرم وأنطون قازان، فيتوغَّل في غابة الزهر الأدبي، لا باقياً في اللفظية البرانية التي يتّهم بها القاصرون المبدعين في هذا الفن العالي، بل ضالعاً الى عُمْق التجربة الإنسانية والوحدانية والعاطفية فيعالج المواضيع المسلوخة من الحياة اليومية أو من الآخ الموجعة بنَزف مُمزِّق، ومع ذلك – وهنا فضلُه اللافت – أنه لم ينحدر بالواقعي الى تعابير متواطئة مع المألوف والمعلوك، بل بقي عالي التعبير في نثر فنيٍّ عالٍ أياً يكن الْموضوع الْمعبَّر عنه.
وفي هذا يكون لنا، في أدب العميد الدكتور أنيس مسلِّم، نَموذجٌ حيٌّ نابضٌ مثالي يَصلُح – بل يَجب – وضعُه بين أيدي تلامذة الْمدارس أسْوةً بنصوص فؤاد سليمان وعمر فاخوري وسائر رعيلنا الأدبي النثري الْمبارَك، كي يتعلَّمَ تلامذتُنا كيف يكونُ الأدب إبداعاً، وكيف يكون النثر فناً راقياً لا يرضى بنعته “شعراً” كي يرتفع شأْنه.
ولنا في هذا النثر الفني العالي فضيحةُ القاصرين نثراً وشعراً، فتبقى الْمقطوعة النثرية “نضيدة” والْمقطوعة الشعرية “قصيدة”، ويبقى خارجَ شرفِ “النضيدة” و”القصيدة” كلُّ نصٍّ ليس فيه سوى الكتابة السردية العادية، وكلُّ نصٍّ لم يَرتَقِ بتقْنيته عن مستوى النظم السهل الثرثار.