هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

319: مشاهداتٌ مغربية (2 من 3)

السبت 23 آب 2003
الرباط – 9 1 3 –
كان شديد الْحماسة للبنان وتراثه الغنائي الريادي حتى خلتُه، أول الأمر، يُجاملني لكوني اللبناني الوحيد بين الشلَّة الى الطاولة خلف الواجهة الزجاجية الوسيعة في مقهى “لا براسري” الْجميل الْمطلّ على شارع الْجزائر الرئيسي في الرباط، رابطاً بين جادة مُحمد الْخامس وجادة مولاي الْحَسَن.
غير أنه سرعان ما أوضح: “أتَحدث عن لبنانكم قبل 1975، حين كان الرائد وكنا جَميعاً هنا في الْمغرب وفي معظم العالَم العربي، مشرقه ومغربه، نتسقّط أخبار فنانيكم وأعمالَهم الغنائية والْمسرحية، نتشبَّه بِها ونُحاول تقليد مسارها واستشفاف نسيجِها الكلامي واللحني والْمشهدي وتركيبتِها الْمسرحية العالية”. وسكت هنيهاتٍ قبل أن يردف: “غير أننا، حين اندلعت النار في بلدكم، كأنّما لَم تكن لتُحرق لديكم الشوارع والبنيان، بل لتهدم إرثاً فنياً عالياً كنا ننظر بإعجاب إليه سامقاً سامياً سباقاً، فبتنا تدريْجاً نشهد انْحِداره السريع الى الْهاوية حتى بتنا اليوم، بعد ربع قرن من السقوط، نرى الأغنية اللبنانية (في معظمها طبعاً) تافهة الكلام واللحن وَ(غالباً) الصوت، فلا ترتكز إلاّ على مشهدياتٍ (في الفضائيات اللبنانية أو في الفيديو كليب) باهرَةِ الأضواءِ والألوانِ والْمشاهدِ والْمجاميع واللقطات والاستعراضات و”الْمواهب” الْجسدية ذات الإثارة والإغراء، وفي جَميع هذه الْحالات لَم تستطع الْمشهديات أن تُخفي سقوط مستوى الأغنية كلاماً ولَحناً وصوتاً وأداء”.
قالَها واعتذر، ظناً منه أنني سأدافع عن الأغنية اللبنانية بِجواب هجومي. غير أنّ جليساً آخر (تونسياً) أخذ الكلام ليردف أن اللائمة أيضاً تقع على شركات الإنتاج الْمسؤولة أساساً عن تسويق الْمادة الْهابطة وترويج أغاني صبايا تتجلى مواهبهنّ في كل شيء إلاّ في الصوت، يرضى بِها صاحب الشركة أو مديرها أو الْمتواطئ مع صاحبها، لا بَحثاً عن موهبة صوتية أصيلة بل عن “موهبة جميلة” ترضي “طموحاته”. وروى لنا كيف أن صديقاً له اقترح على شركة إنتاج صوتاً تونسياً جميلاً، فاستمع مديرها الى الصوت فأعجبه، لكنه طلب صورة الفنانة ليعرضها على صاحب الشركة فيما يقدم له صوتَها، أو شريط فيديو لَها يعرضه عليه فلا يكتفي بسماع صوتَها من الكاسيت.
طبعاً لا لزوم هنا لأكرر ما قلتُه دفاعاً عن أصالة الأغنية اللبنانية، أستاذة الأغنية في كل هذا الْمحيط العربي، وكيف أنّها اليوم تَمر في فترة هبوط سيعقبها فجر جديد. ولَم أقُل لَهم طبعاً ما أقوله وأكتبه دوماً من نقد ذاتي لأغنيتنا الْجديدة الْهابطة الْمستوى الصاعدة الشهرة على أعمدة الكهرباء والْحيطان ولوحات إعلانات كبيرة تطالعنا صباح كل يوم بصورة جديدة واسم جديد ومطعم جديد يقدم الْموهبة الْجديدة مع البطاطا والفاصوليا والفراريْج، ولا قلت لَهم إن أصواتنا الشابة الْجديدة تعتمد الغناء الْمصري والْخليجي استجداء رخيصاً للوصول، بينما الْمصري والْخليجي لا يعتمدان الأغنية اللبنانية للوصول نفسه. بل كتمتُ حرقتي وأكدتُ لَهم أن الأغنية اللبنانية التي أحبوها رائدة لَهم ستعود رائدةً وتنهض من رمادها مثلما نَهض من دماره لبنان.