هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

309: فؤاد الترك يخون مصطلحات الخطاب السياسي

السبت 14 حزيران 2003
– 9 0 3 –
لأنه لا يأتي من “النادي” السياسي، ولا ينتمي الى حلقات “النادي” السياسي، ورفض مرات أن يقف على عتبات الأبواب العالية من أجل أن يَمنَّ عليه باب منها بِمنصب وزاري أو نيابي، ولأنه زاول الدبلوماسية نصف قرن وخرج منها نظيفاً كما دخل، عالي الْجبين كما طوال خدمته، فتَجرَّأَ على ارتكاب الْخيانة في حقها حين قال “إذا اصطدمت الدبلوماسية بالْحقيقة أضحي بالدبلوماسية من أجل الْحقيقة”، ها هو السفير فؤاد الترك يتجرَّأُ ثانيةً قبل أيام في الصرح البطريركي (بكركي) ويرتكب خيانته، في حق السياسة هذه الْمرة، بـدعوتِهِ الى نبذ الْمصطلحات التي يلوكها في الْخطاب السياسي أقطاب أسياد من قادة البلاد الْمفترض أنّهم يسوسون العباد الى الْخير والرشاد.
فمعظم السياسيين عندنا، نادراً ما تفيض قريْحتهم بتصريْح على منبر أو أمام كاميرا أو ميكروفون، إلاّ وتتساقط من أفواههم (يا طيّب الله أفواههم) بشكل اجتراري ببغاوي فارغ عبارات “التلاحم” (ومعناها القاموسي: “التقاتل”، فهل يدرون؟) و”التماسك” و”تَحصين الوحدة الوطنية” و”توطيد السلْم الأهلي” و”تعزيز الانصهار الوطني” و”تفعيل الْحوار الوطني” و”ترسيخ التضامن الوطني” و”رص الصف الوطني” و”السهر على متانة الوضع الداخلي” و”التأكيد على الثوابت الوطنية”، حتى يهجَّ منهم الوطن وتفر الوطنية من عباراتِهم تلك، مضافةً إليها عبارات سخيفة مكرورة أخرى مثل “التعايش” والعيش الْمشترك”، هي (على ما يقول فؤاد الترك) “ظاهرها توحيدي وباطنها تقسيمي”. وبالفعل: عبارة “العيش الْمشترك” يُمكن أن تصحُّ عن شعبين هما (إتنولوجياً) اثنان كما في تشيكيا وسلوفاكيا، لا عن شعب واحد كما في لبنان، وكلمة “التعايش” تصحُّ عن فصائل متقاتلة متحاربة مرغمة على أن “تتعايش” مكرهة معاً، في “تعايش” بينها مصطنع أو اصطناعي يُرغم أفرقاءها على البقاء معاً ولو كرهوه. وكلمة “العيش” أصلاً هي للحيوان والشيء لا للإنسان. فـ”العيش” يعني “الْخبز” (وهو شيء)، والْحيوان “يعيش” (غريزياً) بينما الإنسان “يَحيا” (روحياً). من هنا أن العيش هو للمقصود الْجسدي الْحيواني، والْحياة هي للمقصود الروحي الإنساني. ومن هنا أنَّ ما بيننا في لبنان هو “الْحياة” الواحدة لشعب واحد ذي طوائف متعددة (والتعددية أمر طبيعي). ولآخذ مثالاً عائلتي “زغيب”: فيها الْماروني والدرزي والكاثوليكي والسني والأرثوذكسي والشيعي، والذي بيننا، كعائلة، ليس “عيشاً مشتركاً” (غريزياً) ولا “تعايُشاً” (بالإكراه)، بل حياة واحدة في وطن واحد. وهكذا قياساً على جميع عائلات لبنان الروحية، تكون بيننا جميعاً حياة واحدة في وطن واحد متعدد العائلات.
هذه هي الْمصطلحات التي، ومثيلاتُها، يدعو فؤاد الترك الى نبذها من الْخطاب السياسي اللبناني الذي يتكرر بالكلمات (الْمعلوكة) ذاتِها والتعابير (الببغاوية) ذاتِها والْمضامين (الفارغة) ذاتِها، يتغرغر بِها سياسيون على شاشات التلفزيونات ووراء ميكروفونات الإذاعات، بعدما باتت أسماؤهم (عاشت أسماؤهم بِحفظ الله ورعايته) تتكرر هي نفسها بالتناوب والْمداورة من هذا التلفزيون الى ذاك ومن هذه الإذاعة الى تلك، عدا الْمنقول عن تصاريْحهم اليومية تَجلدنا بِها نشرات الأخبار وموجزات الأخبار ليلاً نَهاراً على مدار الساعة.
إن وطناً يتصرَّف فيه سياسيون كأنّهم يسوسون قطعاناً من الْجهلة، ويلوكون كلاماً مكرراً مَمجوجاً لا رسالة فيه، مهدد بكارثة كينونية لا ينقذه منها إلاّ من يَخونون مصطلح خطابه السياسي كما فعل فؤاد الترك.