هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

296: بين ميشال أسمر وجانين ربيز

السبت 25 آذار 2003
-296-
البادرة النبيلة من السفير فريد إسطفان بتقديم هدية ثمينة من مكتبته الخاصة إلى “مركز التراث اللبناني” (في الجامعة اللبنانية الأميركية): مجموعة كبيرة مجلدة من محاضرات الندوة (بين 1947 و1967) أتاحت لي الاطلاع بالتفصيل على تلك القامة اللبنانية السنديانية التي أسسها ميشال أسمر.
والبادرة النبيلة من “دار النهار” (أطال الله بشباب غسان تويني) بتقميش كتاب (يصدر قريباً) عن “دار الفن والأدب”، أتاحت لي الاطلاع بالتفصيل على تلك القامة الأرزية التي اسمها جانين ربيز.
إسمان لم يعودا ماثلين اليوم إلاّ في ذاكرة من كانوا، في الربع الثالث من القرن الماضي، (وفي بعض الربع الربع)، يرافقون (حضوراً متلقياً أو مشاركة منبرية) بيروت العصر الثقافي الذهبي.
أيامها، كانت قاعة وزارة التربية (بناية الشرتوني) تستقطب اسبوعياً (أسبوعياً بلا كلل ولا راحة ولا استثناء وأحياناً مرتين في الأسبوع الواحد) جمهوراً يأتي غفيراً بخشعة النساك وتقوى المؤمنين كي يتابع “الحدث”: محاضرة أو أمسية شعرية أو مناظرة، على منبر “الندوة اللبنانية” تلبية لدعوة كاهنها الإغريقي ميشال أسمر المتنسك فيها، المكرّس عمره في هيكلها، الباذل وقته الكامل ليبني ذاكرتها (وهي من الأنصع في ذاكرة لبنان) بأكبر الأسماء، لبنانيّها والعربي والأجنبي، حتى باتت طقساً ثقافياً ضالعاً في نسيج تاريخ لبنان الحديث.
وأيامها (بعد خفوت ضوء “الندوة اللبنانية”) كانت “دار الفن والأدب” تستقطب دورياً جمهوراً يأتي غفيراً إلى مغامرة جانين ربيز تطلق فناناً تشكيلياً جديداً أو تقدم أعمالاً جديدة لفنان تشكيلي مكرّس، أن تدعو إلى مناظرة أدبية أو فكرية أو وطنية، أو تستضيف شاعراً أو مفكراً أو محاوراً، وفي جميع الحالات تستقبل ضيوفها بإيمان ثقافي راسخ كما تستقبل العرافات في “دلف” جمهور الحجاج إلى المعبد.
أيامها، كان الإسمان، مجرّد الإسمين، يوحيان الثقة لما إليه يدعوان. فلم يعرف الناس نشاطاً لميشال أسمر أو جانين ربيز إلاّ على مستوى بناء الصرح الثقافي اللبناني في عمارته الوثقى والأبهى. ذلك أن ميشال ىوجانين لم يكونا رجلاً وامرأة يتحركان على الساحة الثقافية اللبنانية أو يحرّكانها، بل كانا مشروعين ثقافيين كبيرين للبنان الفكر والحضارة والثقافة الإبداعية. كانا أفقين واسعي الثقافة والاطلاع والمعارف والاتصالات، فأسسا لمنبر في لبنان أمسى المثقفون اللبنانيون يرنون إليه كي تكرسهم بيروت، والمثقفون العرب يحلمون بالوقوف عليه كي تكتمل رجولتهم الشعرية أو التشيكلية أو النشرية، تماماً كما كانت أدراج جوبيتر في هياكل بعلبك حلم كثيرين كانوا يتكرسون أو يكرسون حين يؤدون فنّهم على الأدراج الدهرية في صحو ليلة صيف قمرية من ليالي ومهرجانات بعلبك الدولية.
لِمَ الكلام اليوم على ميشال أسمر وجانين ربيز؟ لا لأنني غائص عليهما في هذه الأيام (من خلال فهرسة محاضرات “الندوة” لـ”مركز التراث اللبناني”، وقرءاة فصول من كتاب “دار الفن والأدب” لـ”دار النهار”) بل للسؤال الوجيع: أما زال في بيروت اليوم جمهور- كذيالك الجمهور الطيّب الطوباوي – يلهف اسبوعياً ودورياً إلى محاضرة لكبير تدعو إليها مؤسسة ثقافية، أم أن “الزمن تغير” (كما قال لي غسان تويني حين استشرته في هذا الأمر قبل نحو سنتين)؟
أحلى ما في الذاكرة أن تحفظ لحظات البركة، وأوجع ما فيها أن تنبهك أن تلك اللحظات ولّت فلا رجعى، ودخلت بيروت اليوم في “زمن تغير” مرحلة “شيّأت” العمل الثقافي إلى مستوى الإعلان الاستهلاكي.