هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

288: أصوات الـ”بي.بي.سي” البشعة

الاثنين 20 كانون الثاني 2003
– 8 8 2 –
أَذكُر من صباي أنّ جدي لَم يكن يستمع من الراديو العتيق في بيته العتيق إلا إلى الـ”بي. بي. سي” فيقول: “قالت لندن” ليعني الـ”بي.بي.سي”. وحين شح بصره آخر حياته، ظلّ يستمع إلى نشرات “لندن”، مستدِلاًّ عن الإذاعة بأصوات مذيعيها الذين، على ما أذكر، كانوا ذوي خامات صوتية جَميلة وأداء إذاعي يصلح أن يصغي إليه تلامذةُ اللغة العربية كي يتعلَّموا منه اللفظَ والأداءَ والتشكيلَ اللغويَّ الصحيحَ وسلامةَ مَخارج الْحروف.
ثُم انقطعتُ فترةً طويلة عن الـ”بي بي سي” إلى أن لفَتَنِي إليها صديقٌ يستشهد غالباً بِها وبِمصداقية أخبارها، فأخذتُ منذ أشهر أسْمع نشراتِها الإخبارية في بيتِي ومكتبِي وراديو سيارتِي. غير أنني – رغم ثقتي بِمصداقيّتها وعراقةِ تاريْخها الطويل في البثّ الإذاعي و”طبخ” الأخبار ورصانةِ نشراتِها ودأْبِ مراسليها وجهدِ فريقها الإخباري، ورغم سلامة اللفظ وصحة التشكيل اللغوي (بشكل عام) – أشعر بالانزعاج السمعي من (بعض) مذيعيها الذين (خصوصاً في فترات الليل) يدفعوننِي إلى تغيـيـر الْموجة قرَفاً وغضباً وانزعاجاً من أصواتِهم الزنْجارية الْحديدية الصدئة البشعة يطالعوننا بِها من خلف ميكروفون هذه الإذاعة العريقة التي يسيئون إليها وينفِّرون مستمعيها.
فمنهم من يقرأ (كرشاد رمضان) بسرعة غير متكافئة في الْجملة الواحدة. يـبتلع كلمات فيها، ويَمُطُّ حروفاً أخرى ليست حروف علة، وبصوت رتيب عريض لا مبرر له، ولا فروقات أدائية فيه ولا نبرات ملونة.
ومنهم من يقرأ (كعلي أسعد) بِهَمسٍ ثقيل ونبرة هسهاسة مزعجة فينخفض صوته في حلقومه إلى أسفل بلعومه حتى يَخرج منه زفير هواء على آخر الرمق، أكثر مِما تَخرج منه حروف وكلمات.
ومنهم من يقرأ (كهدى الرشيد) بصوت خفيض يلامس انقطاع النَّفَس حتى يُخيل للْمستمع أنّها لن تستطيع إكمال الْجملة حتى آخرها. لا أعرف كم عمرها، لكن في صوتِها تَجعُّدات وتغضُّنات وتضاريس صوتية توحي بأنّها من القرن الْخامس عشر. وإذا كانت فعلاً ذات خدمة طويلة في الإذاعة – وربّما في صباها (!)كانت أفضل حالاً وصوتاً وأداء وتنفساً – فالأكيد أن الْمطلوب اليوم إحالتها عشر مرات متـتالية إلى تقاعد طويل تستريح فيه وتريح.
ربّما لِهذه الأخطاء وسواها، تَمكَّنَت إذاعات خاصة (قليلة على كثرتِها) من تَخطّي معظم الإذاعات الْمُكَرَّسة العريقة، لأن في الإذاعة الْخاصة حيويةً دائمةً وتَجديداً متواصلاً ومراقبةَ أصوات وتأهيلَ خامات صوتية للأداء واللفظ ولَحظات التنفس وطريقة اللهاث ومَخارج الْحروف ومواضع الوقف في الْجملة أو الْخبر أو التعليق.
وإذا التلفزيون شكل، فالإذاعة صوت. وكما لا يَجوز تنفير الْمشاهدين من الشاشة بسبب قباحة وجه، كذلك لا يَجوز تنفير الْمستمعين من الإذاعة بسبب قباحة صوت. والـ”بي.بي.سي”، العريقة بتاريْخها وتراثِها ومرجعيّتها ومصداقيتها، فلتبادر إلى تنقية موجتِها بإنقاذ ميكروفونِها من قباحة أصوات فيها، ذات خامة زنْجارية قبيحة ومنفِّرة، قبل أن ينصرف عنها مستمعوها وتستفيق ذات يومٍ فتجد أنّ عراقتها ما زالت موجودةً وإنّما باتت… من الْماضي.