هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

284: غابتا إلاّ عن شِعرٍ فيهما

السبت 21 كانون الأول 2002
– 4 8 2 –
آخر مرة جلستُ إليها، صيفاً في الْجبل، كانت تتذَمَّر من ضياع بدأ ينخر ذاكرتَها. “بدأْتُ أغيب”، قالت لِي، “أغيبُ عنكم وعنّي. لَم أَعُد أقرأ. لَم أَعُد أكتُب. بدأْتُ أَنسى. أمس زارتنِي صديقة، لَم أَتذكّر اسْمَها إلاّ بعد جهد. ومنذ أيام، كنت أتذكَّر مؤلّفاتِي، فنسيتُ اسْم اثنين منها”.
صدَمني غيابُها (عنا وعنها) وهي أمامي. صدَمني أن تبدأ الرحيل وهي معنا، وأن تنظر إلَيّ بعينين ليسَتَا تَينك اللتين كانتا دوماً، رغم قسوة الشيخوخة، تتأَلَّقان نضارةً وذكاءً وجَمالَ روح.
خَطَرَ لِي أن أُحادِثَها بِما (قد) ينبّه فيها الذاكرة. أتيتُ على “ذكرِه”. حدّثتُها “عنه”. ردّدتُ من “شعره”. تغيّر وجْهُها. أشرقت فيه عينان غير غائِمتين. حتى إذا وصلتُ إلى “قصيدتِها”، انتفضَتْ كمن أزاحَتْ عن كتفيها جبلاً من التعب والضياع، وراحت تردِّدُها كاملةً: “غَنِّ… أحبُّكَ أن تُغَنّي… وتُحَدِّث الأطياب عني”. لَم تتعثّر بتذكُّر بيت واحد. كانت القصيدة تنساب من بين شفتيها كأنّها تقرأُها وهي في عزّ وعيها وذكريات “تلك الأيام”.
كانت تلك زيارَتِي الأخيرة لَها. بعد أسابيع، بلغنِي نعيُها الْموجِع. وفي مأتَمِها، كنتُ أتأَمل نعشَها الآخذَها إلى الْمثوى الأخير، وفي بالي صوتُها يلقي قصيدة “غنّ… أُحِبُّكَ أن تُغَنّي” فيما، بين كثيف الضياع وبداية الغياب، يشرق وجهها فتعود من غيابِها لَحظات، وهي تتذكَّر شعراً مكتوباً لَها في لَحظات إشراق من “هاتيك الأيام”.
وفي زيارة أُخرى للمرأَة الأخرى، كانت صدمتِي أكبر حين بادرتنِي:”من أنتَ؟ ما اسْمُكَ أنتَ؟ وماذا جئتَ تريد مني؟” وأنا أتردَّد عليها منذ ثلاثين عاماً، وتأْنس إلَيّ أقرأُ من شعر “شاعرها” الْمكتوب لَها، وهي تدمع تأثراً.
يومَها، أخذتُ أذكّرُها بِي: باسْمي، بزياراتِي لَها، بِجلساتنا معاً، فلم تتذكّر. ظلت غائبةً عني وهي أمامي، تُحدّق بِي لا ترانِي، وعيناها زائغتان بشيخوختها القاسية، غائمتان تائِهتان خلف جبال الألزهايْمر اللئيم. حتى إذا حدّثتُها عن “شاعرها” وبدأْتُ ألقي أوّل مطلع أبيات كانت رسالةً منها إليه فحَوّلَها هو قصيدة، راحت تكملُها بطلاقة عجيبة: “حبيبِي على هذه الرابيه… أُحِسُّ خيالَكَ يرقى بيَه”. قالتْها غيباً كاملةً، بدون تعثر ولا تأتأة، كما كانت ترددها معي وأنا أقرأها لَها في بيتها الذي أصبحتُ جزءاً من أسرته على تلك التلة الْحالِمة من زوق مكايل.
بعد ثوانٍ من إنْهائِها القصيدة، التفتَتْ إليَّ مُجدَّداً بعينيها الغريبتين الْغائِمتين (غير تينك اللتين أشرقتا قبل قليل) وعادت إلى السؤال الصدمة: “لَم تَقُل لِي من أنتَ. ما اسْمكَ؟ وماذا جئتَ تريد منّي؟”.
لَم أَشأْ أن أبكي أمامَها (وإن تكن دموعي لن تذكِّرها أو تنبِّهها) فعانقتُها مودّعاً، وخرجتُ من عندها وأنا مضمِر ألاَّ أعود إليها، بعدما غابت عنّي (وعنّا وعنها) وهي لا تزال بيننا. غابت إلاَّ “عنه” وعن شعر قاله فيها.
امرأَتان كانتا زيتَ القصيدة في قنديل شاعرَين، واليوم غابتا: الأُولى بالْجسد، والأخرى بالذاكرة. غابتا إلاَّ عن شعرٍ قالاه فيهما، فانطفأَتْ ذاكرتُهما إلاّ عن ذلك الشِعر وعن ذينك الشاعرين الكبيرين اللذين، ويا طوبَى لَهُما في قبرهِما، كَتَبَا لِحبيبَتَيهِما شعراً بَقِيَ أقوى من النسيان يومَ فَقَدَتا الذاكرة.