هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

250: أرجع لنا ما كان يا دهرُ في لبنان

3 أيار 2002
– 250 –
قد لا نوافق الياس أبو شبكة اليوم على قوله “… واسترجع الكهربا وكاذبات الغنى” ، ونَحن نذوق ما نذوقه من تسهيلاتٍ في حياتنا اليومية وسط ما ننعم به من ثـمرات الكهربا والتكنولوجيا والإلكترونيات . لكنَّ ذلك كله لا يُعمينا عن الإيْمان بـما ورد في باقي قصيدة أبو شبكة التي تُرَدّد لازمتُها “يا دهر أرجع لنا ما كان في لبنان”.
حقاً : “أرجع لنا ما كان يا دهر في لبنان” ، فبهذا الـ”ما كان” نواجه عولَمةً نؤمن بـها رفاهاً للإنسان وتقريباً للثقافات والْحضارات ، على أن نواجهها بـما لدينا نَحن لا بـما تفرضه هي علينا أو تـحجبه هي عنا .
وهذا الـ”ما كان” هو التراث ، تراثنا الْحي الذي لن يبقى حياً إن لَم نُغَذِّ نَحن حضوره الدائِم بنا في سلوكنا وهويتنا، وحفاظنا على إرث وصل إلينا، وعلينا أن نَحفظه لأنه هو وجهُنا إن كنا نرفض لبس قناع الآخرين.
قبل أيام ، داخل “بيت الْحِرَفي” في زوق مكايل ، وخلال “مهرجان اللوز الأول”الذي دعا إليه نادي لاجوكوند الثقافي الاجتماعي تَحت شعار “الْمرصبان ذوق وفن” ، التقيتُ أَربع سيدات يشتغلن الْمرصبان حقاً في “ذوق وفن” ، فبادرتُهن بالسؤال اللهيف : “هل تنقلْنَ هذه الْحرفة الى بناتكن”؟ وجاء الْجواب سريعاً من الأربع كأنه واحد : “هذه حرفة أخذتها أمهاتنا عن أمّهاتهن ، ونَحن ننقلها بدورنا الى بناتنا” . وهو جوابٌ ينشرح له القلب خوف انقراض هذه الصناعة اليدوية التي ، إلى طيب مذاقها الرائع ، هي وجهٌ عريق من تراث زوق مكايل ، بل من لبنان انطلاقاً من زوق مكايل (يقال إن راهبة إيطالية نقلت طريقة صنع الْمرصبان الى راهبات دير البشارة الْخازن ثُم انتشر في الزوق كلها ، بعدما استبدل الزوقيون أنصاب التوت بأنصاب اللوز الْحلواني ، وطوّروا الصناعة – يقال أيضاً إنها جاءت الزوق من حلب – بتمرير الْمرصبان في فرن قرميدي بعدما يتخذ شكله من عجينته التي من لوز وسكّر وماء زهر) وهو فعلاً من أطيب الْهدايا مذاقاً يقدمها لبناني الى مواطنه في لبنان أو يَحملها معه الى الاغتراب أو الْخارج ، هدية رمزية لبنانية من صميم تراثنا اليدوي الْحرفي اللبناني . ولذا شدد راعي الاحتفال الْمحامي نُهاد نوفل (رئيس بلدية زوق مكايل ورئيس اتّحاد بلديات كسروان الفتوح) على الزوقيين أن يستمروا “في نقل شعلة التراث من جيل الى جيل” ، وجاءت بادرته التشجيعية الْمعنوية (والْمادية من بلدية زوق مكايل ) لتزيد في ترسيخ هذا “النقل” والْحفاظ عليه .
على عكس ذلك ، خلال تَجوالي في “بيت الْحرفي” سألت حِرَفياً يعمل على النول (والنول من أعرق تراث زوق مكايل ولبنان) إذا كان ينقل هذه الصناعة الرائعة الى الْجيل الْجديد ، فغصَّ وتنهَّد مُجيباً بكل حزن: “كلاّ . الْجيل الْجديد لا يهتم لِهذه الْحرفة ، ونَخشى عليها من الانقراض بعد جيلنا مباشرة” .
وكنت قبل فترة سَمعتُ كلاماً مشابـهاً حين سألتُ أحد الْحِرَفيين في جزين عن نقل مهارة الحِرَف الجزينية الى الجيل الجديد، فأجابَني بالْحزن نفسه: “هذه حرفة ستنقرض ، ومعها سينقرض وجه عريق من وجوه تراث لبنان”.
الصرخة نطلقُها: “يا دهر أرجع لنا ما كان في لبنان” فنواجه العولَمة لا على طريقتها هي بل بـما لدينا نَحن من تراث ، كي يظلّ للبنان وجهه وصوته وحضوره التراثي فلا تبتلعه مدنية العولَمة الْمستوردة.