هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

241: العنبـَر اللبناني: 135 مليون سنة

1 آذار 2002
– 241 –
لو كان صاحب هذا العنوان كاتباً أو شاعراً أو صحافياً أو تنظيْرياً، لكنا وضعنا كلامه في خانة الشطحات الشوفينية أو الانفعالات الوجدانية أو التعصب اللبنانِي. لكنَّ قائل هذا الكلام رجل علْم وتنقيب وتدقيق، وأكاديْميٌّ رصيْن (أستاذ في الْجامعة الأميْركية) أمضى سنواتٍ طويلةً مضنيةً في الْمكتبات والْمختبَرات، بَحثاً عن العنبَر منذ أقدم عصوره وتطوره مع السنوات (بل مع آلاف السنيْن) حتى بلوغه اليوم ما هو عليه.
الدكتور رئيف ملكي، كأنه مترسل منذ أول حياته العلمية للبحث عن العنبَر، وها هو كتابه “العنبَر اللبناني أقدم نظام إيكولوجي للحشرات الْمنقرضة والْمتحجّرة في العالَم” (الصادر مؤخراً عن منشورات جامعة أوريغون الأميركية، تعاوناً مع العالِم الأميركي جورج بوينار، أستاذ علوم الْحشرات في جامعة كاليفورنيا- بركلي، واليوم أستاذ الْمادة نفسها في جامعة أوريغون وصاحب أبْحاث ومؤلفات كثيرة عن العنبَر) لا يَجيء إلى مكتبتنا رقماً إضافياً إلى ما فيها، بل عنواناً صارخاً بتاريْخ لبنان، لبنان الأرض والطبيعة اللتين يعود فيهما العنبر إلى 135 مليون سنة.
ومن الْمفرح ما قاله كاتب الْمقدمة الدكتور آرثر بوكو (رئيس دائرة علْم الْحيوان لدى كلية التاريْخ الطبيعي في جامعة أوريغون) بأن “في قراءة هذا الكتاب متعةً خاصةً تعيدُنا عبْر ملاييْن السنين إلى أرض لبنان التاريْخية الدهرية التي حفظت لنا أقدمَ عنبَر في تاريْخ الكرة الأرضية”.
وفي تصدير الكتاب ملاحظةٌ توضيحية تشير إلى اشتغال الدكتور رئيف ملكي على موضوع العنبَر منذ 1962 (يعني منذ 40 عاماً) وهو ما انفك يَجول على الْمناطق اللبنانية باحثاً في بطن ترابنا وعلى صفحاته عن الْحشرة التي تَختزن فيها ما أجْمعَ العلماء في الولايات الْمتحدة في تسميته على أنه “العنْبَر اللبنانِي: أبو العنبَر في العالَم”. وفي ذلك يقول الدكتور ملكي: “العنبَر (أو الكهربا أو الكهرمان) هو أعظم كُنوز الأرض اللبنانية. أهَميته العلْمية تكمن في تاريْخه السحيق الذي يعود إلى 135 مليون سنة، أقصى مرحلة توصَّل العلماء إلى تَحديدها على الأرض، وإذا بأرضنا، أرض لبنان، كانت مهداً لِهذه الْمادة النادرة ذات الكنْز النادر”. ويشرح ملكي بأن “أكثر البقاع اختزاناً للعنبر في أول التاريْخ، هي تلك الْممتدة شَمالِيَّ جبل لبنان، وفي تلال الباروك وحرمون، وفيها كان الراتِنْج (مادة صمغية لزجة تفرزها أشجار من الفصيلة الصنوبرية) يتقطَّر من الأغصان إلى الأرض، ثُم يتجمَّد ويغور في الأرض تَحت ثلوج لبنان، ويتحوَّل تباعاً إلى مادة العنبَر في قلب التراب الرملي وبين طبقات الصخور الْمتشققة”.
من البلدات اللبنانية التي عاينَ فيها ملكي وجود العنبَر: بقاعكفرا، حاقل، ميْروبا، حراجل، حَمانا، ضهر البيدر، جزين،… وهذا ما كرس أسْماء لبنانية للعنبَر (سلسلة “ليبانيا”) وتسجيل نوع من العنبر باسم “سيدرز” (“الأرز”) بيْن مَحفوظات التاريخ الطبيعي في واشنطن، ونوع آخر باسم “ملكي”.
مرة أخرى، هوذا لبنان “إن حَكى”… يدهش العالَمَ بكنوزٍ فيه هي مرةً طبيعية، وأُخرى بَشَرية، ودوماً إبداعية، فيتكرَّس في ذاكرة العالَم وطنَ الْجودة لا الكثْرة، والنوعية لا الْكمية. وهنا سرُّ عبقريته.