هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

238: انطباعات حلبية

الجمعة 8 شباط 2002
– 238 – حلب
غريب ومفرح ما تستقبلك به حلب كلما زرتَها، تطالعك بِهالَتَيْن كأنّهما ما زالتا نابضتيْن من أمس أو قريبه: قلعة حلب والْمتنبّي. فشعار جامعة حلب يَحمل صورة القلعة، وطوال الْمؤتَمر العلمي الرصيْن العالي القيمة الأكاديْمية عن ابن حزم الأندلسي (من تنظيم جامعة حلب ومعهد التراث العلمي العربِي فيها، تعاوناً مع جَمعية العاديات في حلب ومعهد ثربانتس الإسبانِي في دمشق) لَم يغب الْمتنبّي عن أكثر من مداخلة، مع أن الكلام كان عن شاعر أندلسي. والْمطاعم التي استضافتنا بدعوة من اللجنة التنظيمية، وكان معظمها بيوتاً قديْمة تراثية تَحوَّلت مطاعم بعد ترميمها الْجميل، يروي مسؤولوها أنّها قائمة فوق دهاليز وسراديب مربوطة جَميعها بالقلعة وكانت صيانة للحلبييْن في أيام السلم وحِماية لَهم في أيام الْحرب. وحيْن دار بنا الصديق خيْر الدين الرفاعي (أحد كبار الْخبَراء الأثرييْن الْمدنييْن) توقف بنا عند مدخل القلعة الْمهيب وشرح لنا ما يتجدَّد كل عام من ترميمات واكتشافات تَحسر عن تاريخ القلعة الْمجيد. وفي البحث الذي وضعه مُحمد قجة (رئيس جَمعية العاديّات) عن منْزل الْمتنبّي في حلب، واضح ما بذله الباحث قجة (اختصاصي في التاريخ) من جهد كي يتبيّن معالِم الْمنْزل التاريْخية ويقدِّم إثباتاته.
وفي الْجلسة التي هنئتُ خلالَها الى الصديق وليد إخلاصي (أحد كبار الروائيين العرب الْمعاصرين) في الْخلوة الْهادئة التي اكتشفت أنه يكتب فيها يومياً قبل الظهر وفيه وبعده، مداوماً على احتراف التأْليف (الى كونه عضواًَ في مَجلس الشعب مِما يأخذه دورياً الى دمشق) أطلعني على روايته الْجديدة “الفتوحات” الصادرة مؤخراً ضمن سلسلة منشورات وزارة الثقافة في دمشق، وعلى مسرحيته الْجديدة التي سيفرغ من كتابتها بعد أيام، ومع ذلك لَم يستطع إلاّ أن يذكر مَجموعته القصصية القديْمة “أحضان السيدة الْجميلة” (والسيدة الْجميلة هي القلعة).
كل هذا لأقول إن تأْثيْر القلعة ضالع في الْحلَبييْن جيلاً بعد جيل، يتوارثونه ويورثونه للعيش في حِمى هذا الْمعْلَم التاريْخي والأثري الذي ليس سيف الدولة سوى واحد من أركانه بينما يكاد الْمتنبّي أن يكون مَعْلَمَه الوحيد، مع أننا اكتشفنا جديداً هذه الْمرة: معظم قصائد الْمتنبّي لَم ينشدها في القلعة (على عكس ما كنا نظن أو يقال لنا) بل في بلاط سيف الدولة الذي كان قصراً آخر في مكان أبعد قليلاً من قلب الْمديْنة.
تأثيْر الْمكان على الشعراء والأدباء واضح في تاريْخ الآداب، لكنه في حلب ذو نكهة خاصة، نكهة الْمهابة التي ينشأ عليها الْحلبيون فتعطيهم شخصية مغايرة مستمَدّة من هيبة القلعة وتاريْخها، ومن هيبة شاعر “ملأ الدنيا وشغل الناس” وظل له في حلب أثر يربطه حتى اليوم بقلعتها وسيد قلعتها و”خولة” الْحب الْمشتعل في سر القصيدة.
وإخال هذا ما يتحلَّى به عندنا أحفاد الْمكان في صيدا وصور وبعلبك وطربلس وبيْروت وقانا وسواها من معالِم عندنا على الآباء توريث مَجدها لأبناء يولدون ويَجب أن يتمسكوا بتراثهم قبل أن يصبحوا شعباً بلا ذاكرة.
ويا تعس شعب لا يَحفظ ذاكرة الْمكان لأنه سينتهي في اللامكان، مرفوضاً من نسج ذاكرة الزمان.