هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

237: تلامذة أمام أبواب الفنّ

السبت 2 شباط 2002
– 237 –
كان الصمت جاهزاً في القاعة لدخول الموسيقيين، فدخلوا، جلست ريناتا إلى البيانو، أخذت لودميلا كمانها، واتخذ غافريل من الـ”هورن” (البوق الكبير) حصناً له استعداداً للعزف. ثم دخلت صبية خجول، جلست إلى البيانو حدّ ريناتا كي تقلّب لها أوراق النوطة. وكان القسم الأول للأمسية (“من فللك براهمز” وهي أولى من ست أمسيات سيقدمها المعهد الموسيقي العالي للموسيقى/الكونسرفتوار، هي مؤلفات براهمز الكاملة لموسيقى الحجرة).
بعد الاستراحة، كان القسم الثاني: جلست ريناتا إلى البيانو من جديد، دخل زولت ومعه الكلارينيت، ثم دخلت صبية ووقفت عند التشيلو، فإذا عي أولغا التي كانت، في القسم الأول تقلب أوراق البيانو حد ريناتا. أما التي ستقلب أوراق البيانو لريناتا هذه المرة، فكانت لودميلا (عازفة الكمان في القسم الأول، وبأيما مهارة وبإيما انخطاف مهني رائع!). وفهمت في ما بعد، أن لودميلا هي والدة أولغا التي راحت تعزف على التشيلو في تركيز مذهل واحترافية عالية، كأنها ليست الصبية الخجول التي كانت تقلب أوراق البيانو في القسم الأول.
في القسم الثالث عزفت الأم فيما الإبنة قلبت أوراق النوطة. وفي الثاني عزفت الإبنة فيما الأم قلبت أوراق النوطة. وفي الحالتين كانت الأم وابنتها على خشبة واحدة (مسرح بيار أبو خاطر- الجامعة اليسوعية) لأداء أمسية موسيقية مميزة. هذه أسرة فنية صغيرة، عاشت في بلاد ينشأ فيها البناء ويربي الأباء والأمهات أولادهم فيها على أن الفن خبز يومي أبقى من خبز الأفران. إنها بولونيا، وطن شوبان الذي ما زالت بلاده تعيش على مجده حتى اليوم.
في عادة الأمسيات الموسيقية عندنا، أن يعزى إلى صبايا تلمذيات تقليب أوراق النوطة إلى البيانو، ولم يحدث مرة أن رأينا موسيقياً ينتقل من عازف في القسم الأول إلى تقليب أوراق النوطة في القسم الثاني. هاتان البولونيتان فعلتاها، لأنهما تعرفان أن الموسيقي يظل خادماً بسيطاً أمام عظمة الموسيقى.
في الذكرى السنوية الأولى (1953) لغياب الأب بولس الأشقر البرلماني الأنطوني، وقف أحد تلامذته يلقي كلمة وفاء، مما جاء فيها: “يوم جاء بونا بولس إلى ضيعتنا أنطلياس، ندهنا من طفولتنا التائهة، علمنا النوطة والعزف على الهارمونيوم، ولكن أهم ما علّمنا إياه: التواضع أمام الفن، لأننا أمام أبواب الفن نظل تلامذة”.
ذلك التلميذ “المتواضع” الوفي لتعاليم معلمه، كان عاصي الرحباني. وظل على هذا المبدأ طوال حياته.
الشاهد من الروايتين: الفرق بين التواضع في الأولى والثانية، والطاووسية المضحكة لدى صيصان ومراهقات تملأ صورهم الحيطان ولوحات الإعلانات، يدلون يومياً بتنظيرات وتصريحات وأحاديث حول الفن، وفي أيما عنجهية وتكبر وتشاوف، ومظاهر كاريكاتورية من ملابس وسيارات ومشيات متصنعة وبسمات متصنعة وكلمات متصنعة، ويرون أنفسهم بلغوا قمة المجد، فيما هم لا يستحقون تكنيس زبالة الشاعر أمام بيت فنان كبير حقيقي.
وحده التواضع في الفن هو الفن الحقيقي الذي يجعل الأم تعزف ثم تنتقل لتقلب أوراق النوطة، والإبنة تقلب الأوراق ثم تنتقل لتعزف، وبونا بولس الأشقر يكرز تلامذته بـ”أننا جميعاً أمام أبواب الفن نبقى… تلامذة”.