هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

180: … وفي الموازنة الثقافية

الجمعة 14 كانون الأول 2000
– 180 –
عند صدور “أزرار” الخميس الماضي “في السياحة الثقافية”، التقاني من قالوا إن الموضوع “نظرياً” صالح، لكنه “علمياً” يغرق في التنظير واليوتوبيا، لأن التمويل عصبه وهو غير متوافر. والجواب بسيط، أقطفه من شاعر لبنان سعيد عقل (الخبير الكبير بالأرقام كذلك) في نظرية له تجمع علم الاقتصاد السياسي والطموح الحضاري معاً.
يرسم سعيد عقل لنظريته هرماً ويجعل كلامه على نقطتين منه، القمة (الضيقة) والقاعدة (الواسعة) كالآتي:
القمة: مكان الاختراعات والأعمال الثقافية والفنية والحضارية، والقاعدة الواسعة: مكان أعمال البنية التحتية.
أعمال القمة: يطالب بمضمونها قلائل، ويطالبون مرة ثم ينكفئون قرفاً، لاكتشافهم عقهم تفكير الحكام، بينما أعمال القاعدة، يطالب بمضمونها الكثيرون ويتظاهرون لأجلها، وأحياناً حتى سقوط الحكام.
أعمال القمة لا مردود مباشراً لها على خزينة الدولة، وأعمالها تُحَف تبدأ قليلة ثم تروح تتكاثر مع تقدم البشرية في الحضارة والرقي والعمران، بينما أعمال القاعدة مردودها مباشر (شق طرق ومجارير وشبكات خدمات).
أعمال القمة مع مرور الزمن تزداد مجداً وجدوى (شكسبير حضره مئات على حياته وكان بالكاد يقدر على دفع أجور فرقته، واليوم يشاهده العالم كله، وأعماله مورد رزق خمسة ملايين)، بينما أعمال القاعدة تتلف وتنتهي جدواها مع مرور الزمن (الطرق، شبكات الخدمات) وتحتاج إلى مصروف أكبر لتجديدها وفق متطلبات العصر، والدولة مهما فعلت لهذه القاعدة وخصصت لها موازنات ضخمة، لن ترضي شعبها كلياً لأنه سيظل يطالبها بأكثر.
الدول الحضارية تهتم بالقمة لأنها تصنع العظمة فتستقطب إليها سياحياً مثقفين (معدل سياح فرنسا 70 مليوناً ينفقون لزيارة الواحات الحضارية والفنية). لذا تهتم الدول لتسويق تراثها الحضاري والفني لا للتباهي ببنيتها التحتية.
مع مرور الزمن، أعمال القاعدة (البنية التحتية) يبهت مردودها ويزداد مصروفها (مع أنها في الأصل مخطط لها الربح لكنه يتضاءل مع الوقت)، بينما أعمال القمة (الفن) يزداد مردودها مع الوقت (هي التي بدأت ترفاً فقط) حتى تصبح مورداً مهماً لخزينة الدولة بفضل ارتياد السياح لها من كل بلدان العالم، مما يزيد بلادها مجداً وقيمة حضارية.
عظمة لويس الرابع عشر، مثلاً، أنه تنبّه حدسياً إلى أن القاعدة مهما فعل لها لن يرضيها، فأخذ مبلغاً من موازنة القاعدة التي ستبقى أساساً في حالة عجز (والمرصودة أصلاً للخسارة والاستهلاك والتلف) وخصصه لأعمال القمة (الفنية الحضارية) التي باتت مبرراً لاستقطاب السياح إلى نهضة فنية ثقافية أدبية عظيمة ما زالت فرنسا تقطف نتائجها ويزداد فيها مردودها السياحي الثقافي حتى اليوم.
الشرح يطول، لكن هذه عناوينه الكبرى كما يحددها سعيد عقل دائماً في جلساته ودروسه ومحاضراته.
فماذا لو تنبهت دولتنا واقتطعت من مديونيتها الهائلة (المهدورة بلا جدوى على تنفيذ أعمال القاعدة) جزءاً تخصصه لأعمال تحف حضارية تعود عليها بمردود ثقافي سياحي يبني لها مجداً ويسعفها، مع المجد، على تسديد ديونها؟