هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

112: رصاصة كفر رمان

الجمعة 20 آب 1999
– 112 –
كنت أنجزت القسم الأكبر من أمسيتي الشعرية، وبدأت أنهيها بمجموعة قصائدي الوطنية، حين لعلع الرصاص قريباً من المنبر الذي كنت ألقي عليه. ووصالت القراءة. وظل الجمهور يصغي. ثمّ اشتد الرصاص، فخاف البعض (كنا في الهواء الطلق). وانسحبوا إلى رواق خلفي، وواصلت القراءة وظلوا يصغون. وحين بدأت أختم الأمسية بقصيدتي “قانا”، انتقل الرصاص إلى قصف قوي، فواصلت القراءة، والباقون على مقاعدهم يصغون إلى القصيدة التي عرفها معظمهم (بغناء ماجدة الرومي) ويتحمسون لأبياتها: “من لعنة الضمير لن يعينكم هرب” … “يا أفعوان الموت يا حضارة الدمار”.. “لن ترهبونا… الموت من حرفتنا”… “ونحن صار الموت في حياتنا فصلاً من النهار”… “فكلنا جنوب… وكلنا ثوار… وكلنا في لحظة القرار إليسار”… “وهكذا علمنا لبنان: نموت في رمادنا ونعلن الولادة”… وما علا التصفيق عند نهاية القصيدة والأمسية، حتى سقطت رصاصة على خطوتين من الصف الأول، فتفرق الحاضرون حذراً لا هلعاً، وحيطة لا رعباً. وفيما كنت ألملم أوراقي عن المنبر، وحولي بعض الأصدقاء من الحضور، سقطت رصاصة ثانية، فحملنا الأوراق معاً وولجنا قاعة النادي، فيما لحق بنا أحد الشباب حاملاً في يده الصاصتين يريني إياهما.
بحركة عفوية، أخذت منه الرصاصتين، تأملتهما وكانتا لا تزالان ساخنـتين، ووضعتهام في حقيبتي، قرب ملف قصائدي واضمرت لهما أمراً. ثم رفعت عيني إلى الشباب حولي، إلى وجوههم الرائعة الصمود والبطولة والمقاومة، وقلت لهم بكل تأثّر: “هذه أهم أمسية شعرية في حياتي، لأنكم منحتموني شرف إلقاء قصائدي الوطنية بين الرصاص… سأكتب عن لقائكم قصيدة”.
حدث ذلك يوم الاثنين، مطلع هذا الأسبوع، في كفر رمان، بدعوة من “نادي النهضة” فيها، وفي حضور حشد من أهاليها وأهالي الجوار (النبطية وجوارها) وبينهم شعراء مكرّسون.
هي ذي القصيدة تتحدى الرصاصة: تسقط القصيدة في القول فتحييها، وتسقط الرصاصة على الأرض فتموت، وتواصل الكلمة فعلها في النفوس والضمائر.
وكان أهل كفر رمان (وهي على أمتار من “الشريط الحدودي”) رائعين في إصغائهم، رائعين في شجاعتهم، رائعين في تجاوبهم مع الشعر، هم الذين حقاً بات الموت فصلاً من نهارهم.
أمسيتي في كفر رمان، منحتني مذاق المقاومة والبطولة والشهادة، وجعلتني أشعر بالخجل أن أنسحب مغادراً وأترك أهلها لأعود إلى العاصمة، فيما هم يواجهون الخطر كل لحظة، ويقاومون.
يبقى وشماً في حياتي أنني عدت عن عندهم وأنا أحمل تجويمة قصيدة و… رصاصتين.