هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

فَرادةُ لبنان الوطن في رؤْية شارل قرم
“نقطة على الحرف”- الحلقة 1582 – “صوت كلّ لبنان” – الأَحد 21 آب 2022

في 17 كانون الأَول 1948 عقَدَت منظمة الأُونسكو الدورةَ الثالثة لجمعيتها العمومية في بيروت. ولأَجل ذلك بَنَت الحكومة ما سُمِّيَ من يومها “قصر الأُونسكو” وما زال يحمل هذا الاسم حتى اليوم.

بعد ستة أَشهر، في 7 حزيران 1949، على منبر “الندوة اللبنانية”، وطيلة 90 دقيقة، أَلقى الشاعر شارل قرم محاضرةً مُطوَّلَة عنوانُها: “ستة آلاف سنة من العبقرية السلميَّة في خدمة الإِنسانية”. وكان قبلها أَلقى في “مؤْتمر الإِنسانية” (موناكو 1935) محاضرة قال فيها: “إِذا كانت الإِنسانية دارًا تستضيف القلب والعقل، ولها ثروة إِنسانية تُمكِّن الإِنسان من تبادُل الخيرات الروحية وإنمائها، ففي لبنان الدليلُ الساطع على رسالته الإِنسانية عبر التاريخ، وعلى أَنه ساهم لا في تأسيس حضارة البحر المتوسط وحسْب، بل أَسَّس حضارةً إِنسانيةً ما تزال خيراتها تعُمُّ شعوب العالم في كل مكان وزمان”.

بهذه الاعتزازة اللبنانية العالية، أَلقى شارل قرم محاضرته المطوَّلة “ستة آلاف سنة من العبقرية السلميَّة في خدمة الإِنسانية” منطلقًا من قوله في رائعته الشعرية “الجبل الملهَم”: “ليس من مكانٍ في الأَرض أَصغرَ من هذا البلد وأَكبرَ من هذا القَدَر”.

القدر الكبير… نعم… هكذا لبنان: للبنان الوطن قَدرٌ كبير، للبنان الدولة بلد صغير تحكمه، وللبنان السلطة سياسيون زائلون متناقضون، كلٌّ منهم يَشُدُّ السلطة إِلى وجهته المتنافرة مع سائر الاتجاهات.

شارل قرم، أَحدُ الآباء المناضلين لثَبات هوية لبنان اللبناني، تحدَّث في محاضرته التاريخية عن لبنان الحضارة بادئًا بقوله: “في هذه الزاوية القديمة من الشرق الأَدنى بلدٌ صغيرٌ وادعٌ كان، في مراحل من التاريخ، بطلًا حقيقيًّا من أَبطال الإِنسانية. كافح في سبيلها بإِنجازاته ومآتيه”.

وراح الشاعر يعدِّد تلك المآتي، من أَول بيت بحجارةٍ مقصَّبة في بيبلوس، إِلى أَعمدة الحكمة السبعة في البيت اللبناني، إِلى الفينيقيين مكتشفي أَميركا، إِلى مقاومة صور، إِلى إِرث لبنان الثقافي، إِلى بعلبك الخالدة الشاهدة على نتاج عبقرية محلية لأَن نسَق الترتيب الداخلي في الهياكل قريب جدًّا من الهياكل السامية التي خلَّف الفينيقيون عددًا منها، أَبرزها هيكل فينوس في صقلية.

وكي لا يُتَّهَم شارل قرم بالطوباويات ختم محاضرته قائلًا: “لا نَنَامَنَّ على غار أَجدادنا مهما بلغوا من العظمة، ولا نستمدَّنَّ منهم ادعاءً أَعمى أَو قومية ضيِّقة منكمشة على ذاتها تتحول بأَنانية إِلى أَبشع بربرية عرفها العقل والقلب. بل على العكس تمامًا: فلنستمدَّ من أَسمى ذكريات ماضينا شرفَ استلهامها، كي نَجْبَهَ بإِيمانٍ أَقوى، ما نتعرَّض له اليوم من مِحَن، وَنأْخُذَ من مُثُل الماضي ثقةً تحقِّق ذاتنا حاضرًا ومستقبَلًا، فَنَثِقَ بوطننا أَكثر، ونكونَ مستحقين نعمة أَن نكون أَبناء لبنان”.

كلامٌ كهذا، من شاعر لبناني كبير، يَشْحَنُ اللبنانيين بوعيهم أَيَّ لبنانٍ حضاريٍّ وطنُهم، فيدافعون عنه كي يحافظوا عليه.

أَما الذين يرون في هذا الكلام هباءً نظريًّا لا ينفَع الوضع المنهار الذي نحن فيه، فَلْيَفْهَموا أَنَّ مقاييسَهم صغيرة على مستوى دولة صغيرة تحكمُها سلطة صغيرة تُدير شؤُون البلاد وفق حساباتها السياسية الصغيرة.

هؤُلاء سياسيون زائلون مع سُلْطتهم الزائلة، وباقيةٌ في شَمْخَتها الحضارية هَيْبَةُ لبنان الوطن بِهُويَّته الخالدة: لبنان اللبناني.

هـنـري زغـيـب 

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib