هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

الصحافة المهجَرية قبل 100 سنة: “الفُنُون” عددًا أَول (1 من 2)
النهار العربي 166 – الجمعة 3 حزيران 2022

هنري زغيب

 خلال اشتغالي أَربعَ سنواتٍ مكثَّفة على كتابي الأَخير عن جبران هذا الرجل من لبنان (منشورات “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU – 2021) تسنَّى لي الوقوفُ على عدد كبير من الوثائق القديمة الأَصلية، بينها العددُ الأَول (نيويورك، نيسان/أبريل 1913) من مجلة الفنون.

يومَها لم أَتوسَّع في تفصيل ذاك العدد لخروج التفصيل عن سياق الكتاب. لذا أَتبسَّط فيه هنا، لقرَّاء “النهار العربي” إِضاءَةً على مناخ الصحافة المهجَرية فترتئذٍ.

ظروف العدد الأَول

تَصَفُّحي هذا العددَ الأَول من “الفنون” (120 صفحة) أَخذَني نوستالجيًّا إِلى تلك الحقبة التي تركَّزَ فيها الحضور الأَدبي المهجري، وتاليًا معه الصحافة المهجرية التي تَـمَسرَحَت منبرَ تلك النهضة الأَدبية المهجَرية.

في هذا العدد الأَول أَن “مُنْشِئَي” المجلة (104، شارع واشنطن، نيويورك) هما نسيب عريضة ونظْمي نَسيم (تاجر في نيويورك). وفي باب الإِعلانات صفحتان لنصٍّ ترويجيّ كتبَه نظْمي نسيم ذاته لـ”منتجات مخايل عريضة” (شقيق نسيب) الذي يبدو أَنه كان داعمًا “الفنون” ماديًّا. وفي المرحلة التالية من صدور “الفنون” (1916) بعد توقُّفها خلال الحرب العالمية الأُولى، غاب اسم نظْمي نسيم وظهَر على الصفحة الأُولى: “رئيس تحريرها نسيب عريضة – مدير أَعمالها راغب متراج”.

على كامل الغلاف الأَخير من هذا العدد الأَول: صفحة إِعلانية عن “مطبعة الأَتْلنتيك” (104، شارع واشنطُن، نيويورك، وهو ذاته عنوان المجلة، ما يعني أن المطبعة والمجلة في مبنى واحد)، أَسَّسها نسيب عريضة للطباعة التجارية، عملًا يؤَمِّنُ له مدخولًا يُتيح له إِصدار المجلة التي رزَحت طويلًا تحت الديون لتقاعُس القرّاء عن دفع قيمة اشتراكهم (“خمسة ريالات أَميركية = خمسة دولارات).

جبران : صدارةُ العدد الأَول

تصدُف أَن هذا العدد أَمامي هو من الوثائق الجبرانية. لذا نقرأُ على غلافه الخارجي ترجمة العنوان إِلى الإِنكليزية لأَنه أَرسلَه إِلى ماري هاسكل التي لم تكُن قادرة على قراءة العربية. ويبدو ضعفُه الإِنكليزي في ترجمته كلمة “العدد” number بينما الصحيح issue. كما نرى ظرف الرسالة التي عليها بخط جبران عنوانُها: 314 شارع مارلبورو، بوسطن، ماس (أَي ماساشوستْس)، وعنوانُه على المقلب الآخر من الظرف: 51 الشارع العاشر غربًا، نيويورك. وفي الداخل ترجمتُه الإِنكليزية عنوانَ نصِّه “أَيها الليل” (An ode to the night, by K.G.). ومما تواتر لدينا من معلومات، أَنَّ ناشر”الفنون” نسيب عريضة (1887-1946) كان من الأَقرب إِلى جبران بين من أَصبحوا لاحقًا (1920) أَعضاء “الرابطة القلمية” وانتخبُوه عميدها. وتكريمًا صداقتَه مع جبران، افتَتَحَ العددَ الأَول بصورة جبران على صفحة كاملة قبل نص جبران “أَيها الليل” على الصفحة الأُولى من العدد. ويذهب عارفون جبرانيون إِلى أَن جبران كان يدعم “الفنون” ماديًّا كي تكون منبرًا لتلك النهضة الأَدبية.

دلالات العدد الأَول

من دلالات هذا العدد نشْرُ الريحاني نصًّا فيه (“بلبل الموت والحياة”) يُشير إِلى الرابطة الوثقى بين الريحاني وجبران ورفاقه، ما يمهِّد أَن يكون الريحاني من أَركان الصيغة الأُولى لـ”الرابطة القلمية” (1916). ويأْتي صدورُ “الفنون” سنة 1913 بعد سنتَين من صدور رواية الريحاني “كتاب خالد” (نيويورك -1911) حاملةً رسْمَ الغلاف ورُسُومَ الداخل بريشة جبران.

دلالة أُخرى: معظم نُصُوص هذا العدد مترجَمَة من الأَدب الروسي، ما يشير إِلى تأثُّر نسيب عريضة به، هو الذي كان تَتَلْمذَ ابتدائيًا لدى مدرسة حمص الروسية المجانية، وإِكمالًا خمسَ سنوات (1900-1905) لدى مدرسة المعلمين الروسية في مدينة الناصرةفلسطين، قبل أَن يسافر إِلى نيويورك (1905) وسيبقى فيها حتى وفاته.

ماذا في العدد الأَول؟

افتتاح العدد، من الصفحة 1 إِلى الصفحة 4، مقطوعة “أَيها الليل” وتحت العنوان “بقلم جبران خليل جبران”، تسبقها على صفحة كاملة صورةٌ فوتوغرافية لجبران جالسًا وفي يده كتاب. مطلع المقطوعة: “يا ليل الشعراء والعشَّاق والمنشدين، يا ليل الأَشباح والأَرواح والأْخْيِلة، يا ليلَ الشوق والصبابة والتذكار…”. وختامها: “أَنا مثلك أَيها الليل، ولن يأْتي صباحي حتى ينتهي أَجلي”. ويليه توقيع جبران بخطّه وإِلى يمينه “نيويورك 10 آذار/مارس 1913”. وبعودتي إِلى مؤَلفات جبران، وجدتُ هذه المقطوعة نصًّا سادسًا في كتاب “العواصف” الذي صدر بعد سبع سنوات (القاهرة، منشورات “الهلال”، 1920)، وهو بحرفيته بدون أَيّ تعديل.

بعد نص جبران، من الصفحة 5 إِلى الصفحة 7، قصيدة “أَماني” بتوقيع “أَليف” وهي كلاسيكيةٌ من 35 بيتًا على البحر الخفيف وذاتُ قافية واحدة، مطلعُها:

ليتَني كنتُ طائرًا أَتفلَّى         في فضاء الحقول فوق الترابِ

أَركب الريح تارةً ثم أَعلو       في فيافي المجهول خلْف السحابِ

وختامُها:

طائرًا في السماء دون مَقَرٍّ      في فضاء الصحراء فوقَ السَحابِ

إِنَّ في الجو فسحةً للأَماني     ومجالًا لخاطرٍ كالشهابِ 

و”أَليف” هو الاسم الأَدبي المستعار الذي كان نسيب عريضة يوقِّع به كثيرًا من كتاباته. واللافت أَن العنوان جاء “أَماني” فيما الصحيح لغويًّا” “أَمانٍ”. وبعودتي إِلى مجموعته الشعرية “الأَرواح الحائرة” (مطبعة جريدة “الأخلاق”- نيويورك 1946) لم أَجد فيها القصيدة، مع أَن الشاعر هو مَن جمع قصائده المنشورة في “الفنون” وسواها، وأَرسلَها إِلى المطبعة لكنه تُوفي عن 59 سنة (25 آذار/مارس 1946) قبل 4 أَيام على صدور كتابه من المطبعة.

ثم يأْتي، على عشر صفحات (8 إِلى 17)، نص “بُلبُل الموت والحياة لأَمين الريحاني” (كذا) مطلعُهُ: “في القفص يغرِّد البُلبُل وفي الأَودية تُوَلْوِلُ الرياح، والأَشجارُ تَنثُر أَوراقها على أَزهار تموت في الحقول…”، وخاتمته: “سكَتَ البلبل في القفص، وسكَتَت في الأَودية الرياح”. ووَرَدَ اسم أَمين الريحاني مجددًا، وإِلى يمينه عبارة “الفريكة (لبنان) في 1 شباط/فبراير 1913″، ما يشير إِلى جوّ الريحاني كاتبًا نصَّه على جبين وادي الفريكة الذي طبَع الكثير من كتاباته. وبعودتي إِلى مؤَلفات الريحاني وجدتُ هذا النص في مجموعته “هتاف الأَودية” التي جمع نصوصَها لاحقًا شقيقُهُ أَلبرت الريحاني وأَصدرها كتابًا سنة 1955 عن منشورات “دار الريحاني”، وشرحَ في صفحته الأُولى أَنه من “الشعر المنثور” الذي كان الأَمين رائدًا في اعتماده تأَثُّرًا برائده الأَميركي وُوْلْت ويتمان، وكان الأَمين أَولَ مَن أَشار إِلى هذا النوع من الشعر ورائدِه في “الريحانيات” (1910). ولاحظتُ تعديلًا بين المقطوعة المنشورة في الكتاب وتلك المنشورة في “الفنون”، فإِذا العنوان في الكتاب بات “بُلبُل ورياح”، وإِذا في متن النص كلماتٌ عدَّلها الريحاني لاحقًا، ومقاطعُ جديدة صدرَت في الكتاب لم تكُن في “الفنون”، وأَبقى الريحاني في الكتاب على توثيق كتابتها: “الفريكة 1913”.

ماذا في بقية هذا العدد الأَول؟

الجواب في الجزء التالي من هذا المقال.

كلام الصُوَر:

  • مطلع وختام مقطوعة جبران “أَيها الليل” – الصفحة الأُولى
  1. العددُ الأَول: الغلافان الخارجي والداخلي
  2. مطلع وختام مقطوعة أَمين الريحاني
  3. مطلع وختام قصيدة نسيب عريضة بتوقيعه “أَليف”
  4. بخط جبران: عنوانُ ماري هاسكل وعنوانُه