هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

موديلياني وحبيبتُه: مات مساءَ السبت فانتحرَت صباحَ الأَحد (2 من 2)
النهار العربي 156 – الجمعة 29 نيسان 2022

هنري زغيب

الجزء الأَول من هذا المقال (الثلثاء الماضي) كان تمهيدًا لقصة الحب الغريبة التي جمعت الرسام الإِيطالي أَميديو موديلياني (1884-1920) بحبيبته جانّ هيبوتيرن (1898-1920).

وكانت تلك أَغرب قصة حب وجنون في الوسَط التشكيلي العالمي بين رسام ورسامة.

عاشا معًا، عملا معًا، وكانا في الموت معًا: بعدما توفِّـي هو مساءَ السبت 24 كانون الثاني/يناير 1920، انتحرَت هي صباح اليوم التالي: الأَحد 25 كانون الثاني/يناير 1920، فضَمَّهما قبر واحد.

معه في شُقَّته عكس إِرادة أَهلها

كان والدَا جانّ من بيئة دينية كاثوليكية مُحافِظة، فعارضا العلاقةَ “غير الشرعية” بين ابنتهما والرسام البوهيميّ، وقرارَها الانتقال للعيش معه في شقته، وخصوصًا لصيته السيِّـئ كمدمن مخدرات و”زير نساء”. لكنّ جانّ لم تأْبه لمعارضتهما. بقيَت على علاقتها به، وانتقلَت تعيش معه. وهو لم يكن، في تلك الحقبة، مدركًا مدى تغلغُل السِل في جسده المتهاوي، وأَنه لن يعيش طويلًا معها.

مع نهاية الحرب العالمية الأُولى، في خريف 1918، غادر الحبيبان پاريس إِلى مدينة نيس، وأَبقيا صداقةً مشتركة مع أَعلام مثل أُوغست رنوار وپابلو پيكاسو وجيورجيو دو شيريكو.

الانتقال إِلى نيس

ولماذا نيس؟ لدفْء مناخها، ولتَصَوُّر وكيل أَعمال أَميديو إِمكانَ تسويق لوحاته لدى أَغنياء الريڤييرا الفرنسية ممن كانوا يُمضون فيها شتاءَاتهم. في نيس ولدت ابنتُهما جانّ (29 تشرين الثاني/نوڤمبر 1918). ولدى عودتهما إِلى پاريس في ربيع 1919 كانت جانّ حبلى من جديد. لكن صحة آماديو بدأَت تسوء بسبب مرض السحايا الذي أَصابه من مضاعفات السل.

الاعتلال فالوفاة

أَخذَت جانّ تهتمُّ به، قلقةً عليه وهي به مجنونةُ حب. نسيَت الرسم وانصرفَت إِلى العناية به إِذ ساءَت صحتُه في الأَشهُر الأَخيرة من حياته. أَشهُر أَمضتْها في القهر وأَمضاها في العذاب، وبات أَضعف من أَن يرسُم بسبب شلل عامّ ضرَب جسده.

صباح السبت 24 كانون الثاني/يناير 1920 تدهْوَرَ وضعُه الصحيُّ كلِّيًّا. استدعَت طبيبه الذي وصل فوجده في الغيبوبة النهائية. وتوفّي مساءً طاويًا معه ربيعه الخامس والثلاثين.

قبل أَن يترك لها أَهلُها فرصة وداعه الأَخير في مأْتمه عصرَ اليوم التالي (الأَحد)، جاء شقيقُها واصطحَبها عنْوَةً إِلى بيت أَهلها، كاسرًا رغبتَها في البقاء إِلى جثْمان حبيبها. نامَت ليلتها ولم تَــنَم. كانت بين كابوس وفاة أَميديو، وفكرةٍ للصباح أَخذَت تكبر في بالها، وهي في مستنقع هائل من الحزن الـمُضْني.

معًا في الحياة معًا في الموت        

أَطلَّ صباح الأَحد 25 كانون الثاني/يناير1920. صحَت من كابوس الليل. بقيَت فكرة الصباح. نهضَت من فراشها، تتردَّد في عينيها صُورة حبيبها لحظةَ أَغمض عينيه للمرة الأَخيرة على كلامٍ أَراد أَن يقولَه لها لكنَّ نَفَسَه انطفأَ في صدره.

وقفَتْ إِلى النافذة. نظرَت إِلى الشارع من ذاك الطابق الخامس. أَغمضَت عينيها لتلاقي عينيه، وقفَزت من النافذة فارتطمَ جسدها الناحل ببلاط الرصيف، ما تسبَّب بموتها الفوري وموتِ الجنين في أَحشائها.

دفَنَها أَهلُها في مدفن عام. وما إِلَّا بعد عشْر سنوات، وعلى طلَب خاصّ من إِيمانويل (شقيق أَميديو) حتى وافقَت أُسرةُ جانّ على نقل رفاتها (سنة 1930) إِلى مقبرة “لاشيز”، حدّ حبيبها.

زوَّار الضريح اليوم يقرأُون محفورةً على بلاطته هذه الكلمات: “حياة إِخلاص ووفاء حتى الشهادة القصوى”.

شهرة بعد الوفاة

مات موديلياني حزينًا، لا يعرف لوحاته سوى بعض أَصدقاء في حلقته الضيقة. لكن شهرته، بعد سنوات من غيابه، أَشرقَت حتى باتت لوحاته اليوم من الأَعلى ثمنًا في العالم.

ابنته اليتيمة جانّ موديلياني (1918-1984) تبنَّتْها عمَّتُها في فلورنسا، فنشأَت لا تعرف الكثير عن والدَيها (كانت في شهرها الخامس عشَر يوم تُوُفِّيَا). وحين كبرَت راحت تبحث عن سيرتهما ومَسيرتهما. بعد 40 سنة على وفاتهما أَصدرت كتابها بالإِيطالية (1958) عن سيرة والدها، وصدر بالإِنكليزية (ترجمة إِسْتِر رولِنْد) في الولايات المتحدة الأَميركية بعنوان “موديلياني: الرجل والأُسطُورة”.

في الكتاب 136 لوحة ورسائل وملاحظات وصُوَر فوتوغرافية، وتسلسل بيوغرافي يدلُّ على تطوُّر عمله عبر السنوات، وشخصيته الغريبة المتطرِّفة، وحوارات مقابلاتها مع أَشخاص عرفوت والدَيها وأَدلوا بإِفادات هي اليوم ذخيرة معلومات لنقاد الفن، منها سنواته الأُولى في إِيطاليا، ورحلاته وتنقُّلاته وأَعماله، وعلاقاته المتعددة ومغاليَاته في فرنسا، والتحدِّيات الصعبة التي واجهها في تسويق أَعماله، حتى كان يلجأُ إِلى أَصدقائه يستدين منهم، لكن ذلك لم يسعفْه في معيشته، فمات في فقر قاهر ومرض قاتل.

بقيت جانّ الابنة 30 سنة محتفظة بأَعمال أَبيها حتى أَقنعها ناقد فني بالكشْف عنها، فتَمَّ ذلك في تشرين الأَول/أُكتوبر 2000 بمعرض كبير في البندقية.

وكان الكتاب إِطلالة واسعة على رسَّام ورسَّامة جمعتْهُما الحياة، جمعَهُما الموت، وجمعَهُما خلودٌ لن تمحو أَصداءَه أَصواتُ السنوات.

كلام الصُوَر

  • قبر واحد لموديلياني وحبيبته
  1. أَميديو بريشة جانّ (1919)
  2. جانّ بريشة أَميديو (1918)
  3. أَميديو وپــيـكاسو (باريس 1916)
  4. جانّ موديلياني (الابنة) أَمام لوحات أُمِّها جانّ بريشة أَبيها أَميديو
  5. غلاف كتاب جانّ الابنة عن أَبيها الرسَّام