هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

قبل 100 سنة: المرأَة رائدةُ الفوتوغرافيا
النهار العربي (38) – الجمعة 12 آذار 2021

هنري زغيب

          بالرغم من تطوُّر فن الفوتوغرافيا، تقنياتٍ وإِبداعًا وأَلوانًا وأَبعادًا ثنائيَّةً ومثلَّثة وصُوَرًا مُذهلةَ اللقطات والتأْثير، يبقى لدينا شعورٌ نوستالجيٌّ خاص حيال الصُوَر القديمة بالأَبيض والأَسْود، وما فيها من لقطاتٍ، لنا أَو لسوانا، تعيدُنا إِلى لحظاتٍ راسخة في ذاكرتنا الشخصية أَو الجَماعية أَو الوطنية.

          في هذا السياق، ونحن في أُسبوع المرأَة العالمي، تحضُرني ما قرأْتُه قبل سنواتٍ عن امرأَةٍ رائدة في التصوير الفوتوغرافي، لا تزال صورُها بالأَبيض والأَسود ناطقة بأَلوان تلك السنوات السحيقة قبل نحو 100 سنة.

بؤْس الزواج وسعادة الكاميرا

          إِنها الأَميركية جرترود ستانتون (1852-1934) رائدة دخول المرأَة فنَّ الفوتوغرافيا. شهدت طفولتُها (في ولاية آيُوَى) غزوَ الأُوروپيين ولاياتٍ أَميركيةً طامعين بكنوز أَراضيها، منكِّلين بسكَّانها الأَصليين، فأَثَّر ذلك عميقًا في قلبها وسيظهر لاحقًا في صوَرها.

          لدى وفاة والدها انتقلت بها والدتها إِلى بروكلن (ولاية نيويورك) لكنها فضلَت العيش عند جدتها في مدينة بيت لحم (ولاية پنسليڤانيا). هناك تزوَّجَت (1874) من رجل الأَعمال الأَلماني إِدوارد كاسيـبـيـيـه فحملت اسم عائلته وأَنجبَت منه ثلاثة أَولاد. لكنها ذاقت معه أَسوأَ سنوات حياتها. ولاحقًا جسَّدَت تعاستها الزوجية في صورة “جحيم الزواج” (ولدان أَمام ثورَين مقرونَين قسرًا ومكمومَين قهرًا). كان الطلاق محرَّمًا في بيئتها، فعاشت منفصلة عن زوجها وقررت، وهي في السابعة والثلاثين، أَن تَدرس الفن فانتقلت بأَولادها إِلى بروكلن وتسجَّلت (1889) في كلية پراتْ الحديثة النشَأَة (1887) تدرس فنَّ الفوتوغرافيا وكان في أَول عهده. وللتعمُّق فيه سافرت إِلى فرنسا وأَلمانيا، وعادت إِلى بروكلن سنة 1895 مزوَّدة بخبرة ودراسة عميقتَين أَتاحتا لها أَن تحترف الفوتوغرافيا مهنة في ستوديو أَسَّستْهُ. وبعد سنة تمكنَت من تعليق 100 صورة في معرض “نادي بوسطن للفوتوغرافيا”، استقطب جمهورًا واسعًا لأَن الفوتوغرافيا كانت جديدةً على الناس، فطلبَتْها كليّة پراتْ لمعرض لديها سنة 1897 تلاه عامئذٍ معرض لها آخر لدى “جمعية فيلادلفيا للتصوير الفوتوغرافي”. وفي كلمتها نهار افتتاح المعرض رفضت صورةً نمطيةً للمرأَة أَنها خُلقتْ لتبقى في بيتها، وقالت: “أَنصح السيداتِ هاوياتِ الفن أَن يتَّجهنَ إِلى الفوتوغرافيا، هذا الفن الجديد اليوم، فالقلائل اللواتي امتهَنَّه نجَحْن وكان مفيدًا لهُنَّ ومُربحًا”.

نحو الريادة       

سنة 1899 شاهدَت في نيويورك مسرحية “الغرب البري كما يراه بَفَلُو بِل” فاستعادت من طفولتها مشاهد رعاة البَقَر واجتياح الأُوروپيين الغربَ الأَميركي والتنكيل بالهنود الحُمر سكَّانه الأَصليين. تأَثَّرت بذلك فأَمضت منذئذٍ عشر سنوات تصوِّرهم، لا بإِبراز أَزيائهم (كما درَج زملاؤُها) بل وجوههم وتعابيرها وفراداتهم. ومن أَشهر صوَرها تلك: “الصقر الطائر” وهو محارب قديم عاش حروبًا ومجازر وانتهى خادمًا تاعسًا في مستودع، يعمل كي يؤَمن معيشته بدون ذُلّ. منذئذٍ ذاعت شهرتها “مصوِّرة الإِنسانية المقهورة”، وأَخذَت المجلات تنشر صوَرها، كمجلة “ملاحظات الكاميرا” التي نشرت لها خمس صور في عدد واحد، مع تعليق من الناقد جوزف كيلي (1869-1914): “قبل سنةٍ كانت جرترود مجهولةً في عالم الفوتوغرافيا. اليوم بات اسمها أَوَّلَ بلا منازع”. وبلغت من الشهرة أَن صورة “المذود” (امرأَة تحتضن طفلها) بيعت بـ100 دولار، كان أَعلى مبلغ يومها لصورة فوتوغرافية. وتواصل نجاح جرترود تجاريًّا وفنيًّا، ونالت تكريمات وتنويهات وصدرت صوَرها في كتب ومجلات .

الكاميرا في خدمة المرأَة  

سافرت في جولة أُوروپية، ونجحَت سنة 1905 في دخول محترف عبقري عصره أُوغُست رودان (1840-1917). وبعودتها إِلى نيويورك أَخذت تُفرد في صوَرها حيِّزًا واسعًا للمرأَة. وسنة 1908 أَسست “الاتحاد النسائي للفوتوغرافيا في أَميركا” مع زميلتَيها المصوِّرتَين بيلّا جونسون (1864-1945) وماري كارنِل (1861-1925)، وترأَّستْه سنواتٍ ساهمت خلالها في تأْسيس “جمعية النساءِ محترفاتِ الفوتوغرافيا في أَميركا”. وكان نشاطها النسائي ملهِمًا إِيجابيًّا مصوِّراتٍ كثيرات، بينهنَّ كلارا سيپرِلّ (1885-1975) وكونسويلُّو كاناغا (1894-1978) ولورا غِلْپِن (1891-1979).

سنة 1910 توفي زوجها وجاءَت ابنتها هرمين تساعدها في مهنتها. وبين 1910 و1920 طوَّرت عملها صوب المرأَة فراحت تصوِّر الوجوه النسائية البارزة في زمنها، وخصَّصت صورًا كثيرة للأُمومة وعلاقة الحنان بين الأُم وطفلها.

تتويجًا عملَها فنيًّا ومهنيًّا، أَقامت آخرَ معرض لصُورها سنة 1929 لدى “مؤَسسة بروكلن للفنون والعلوم”، وانكفأَت بعدها إِلى راحة هادئة انتهت بوفاتها سنة 1934، فصدرت صحافة نيويورك تَنعَى : “أَبرز مصوِّرة فوتوغرافيَّة رائدة في هذا العصر”.

واليوم، بعد 100 سنة، لا تزال صوَرُها بالأَبيض والأَسوَد تلوِّن لحظاتٍ من ذاك الزمن نابضةً بأَبلغَ من كل كلام.

كلام الصور

  1. رودان في محترفه بكاميرا جرترود كاسيبييه (1905) 
  2. جرترود في محترفها (1900)
  3. “جحيم الزواج” ثوران مكمومان قهرًا (1915)
  4. “الصقر الطائر” زعيم الهنود الحمر (1901)
  5. الأُمومة (1897)