هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

النهار العربي (3) – الإِبداع حين يخلِّد الحُكْم والحاكم – الثلثاء 10 تشرين الثاني 2020

هنري زغيب

          غداة انتهاء “أُسبوع ميخائيل نعيمة” (7 – 14 أَيار 1978) كان القصر الجمهوري على موعدٍ غير عادي: يزوره الأَديب الكبير شاكرًا رئيسَ الجمهورية الياس سركيس على رعايته مهرجانَ تكريمه الذي عمَّ لبنان كلَّه ندواتٍ وبرامجَ أَكاديمية وإِذاعية وتلـڤـزيونية.

في قاعة القصر الكبرى، جلس نعيمة كما ملِكٌ على عرش، فيما ظلَّ واقفًا أَمامه رئيسُ الجمهورية ورئيسُ الحكومة (سليم الحص) ووزيرُ التربية والفنون الجميلة (أَسعد رزق) ولولبُ حركة “المهرجان” مؤَسسُ “الندوة اللبنانية” ميشال أَسمر، يُصغُون إِلى الأَديب الكبير يَقرأُ كلمة الشُكر. في اليوم التالي صدرَت “النهار” وعلى صدر صفحتها الأُولى صورةُ الزيارة وعنوانٌ لها من صياغة غسان تويني: “الدولة تقِف لميخائيل نعيمة” (الصورة). ويومَها زيَّن الرئيس سركيس صدرَ نعيمة بــ”وسام الأَرز الوطني من رتبة ضابط أَكبر”.

          وفي محفوظاته التي تتعهَّدُها اليوم سُهى نعيمة حداد (والدتُها مي ابنة نجيب شقيق ميخائيل) وجميعُها باتت في بيتها الجديد (المطيلب منذ كانون الأَول 2018) بعدما انتقلَت بها من بيت الزلقا (حيث عاش – من 1970 حتى وفاته سنة 1988 – “جدُّو ميشا” كما تسمِّيه بكل حنان وحنين) مجموعةُ صورٍ لذاك الاحتفال في القصر الجمهوري، وفي جميعها يبدو نعيمة جالسًا، يقرأُ كلمته أَو يُصغي إِلى المحيطين به، فإِذا المشهد ساطعٌ بأَن الأَدب كان ذا مكانة خاصة في عقل سيِّد القصر.

          ولهذه المكانة في تاريخ الملوك والرؤَساء والحُكَّام، أَمثلة عدَّة تتجلى في محاولة هؤُلاء تركَ لمسة خاصة من الإِبداع الفني والأَدبي تدَع حكمَهم نابضًا في ذاكرة التاريخ، مدركين أَن إِنجازاتهم السياسية تظل آنية يمحوها الزمن الذي لا يحفظ إِلَّا الآثار الخالدة.

          التجربة الأَميركية

          حضورُ الشعر في المحافل الرسمية رَفْعًا قيمتَها، عرفَتْه أَميركا منذ أَعلَتْ بالشعر قيمة الاحتفال فلا يكون سياسيًا بحتًا يزول إِلى النسيان بعد انتهائه. وهي ظاهرةٌ شهِدَها مرارًا احتفالُ تَسلُّمِ الرئيس الجديد الحكْمَ وقسَمِه اليمين الدستورية في النهار العشرين من كانون الثاني مع كل رئيس جديد، دون أَن يكون الشاعر مدَّاحًا متزلِّفًا في قصيدته.

          هذه الدُرجة بدأَها الرئيس جون كيندي نهارَ تسلُّمه الحُكْم (الجمعة 20 كانون الثاني 1961): شاء أَن يكون ضيفَ الاحتفال شاعرُ أَميركا الوطني روبرت فروست (1874 – 1963)، فأَلقى قصيدته “الهدية السخية”، مخاطبًا فيها شعب أَميركا دون أَيِّ إِشارةِ مدحٍ إِلى الرئيس الجديد.

          بقيَت الفكرة في بال مَن كان في فُتُوته مُعجَبًا بكيندي: الرئيس بِل كلنتون، حتى إِذا جاء يومُ تَسَلُّمه الحُكْم  (الأَربعاء 20 كانون الثاني 1993) شاء أَن يتوِّج بالشعر الاحتفال، فجاء بالشاعرة مايا أَنجِلو (1928 – 2014) فأَلقَت قصيدتها “على نبْض الصباح” ساردة فيها مسيرةَ الأَميركيين السُمر البَشَرة، دون أَيِّ إِشارةِ مدحٍ إِلى الرئيس الجديد.

          استحسن الفكرةَ الرئيسُ باراك أُوباما وشاءَ الأَمرَ ذاته يوم تَسَلُّمه الحُكْم (الثلثاء 20 كانون الثاني 2009) فجاء بالشاعرة إِليزابيت أَلكسندر (مولودة سنة 1962) وأَلقَت قصيدتها “أُغنيةٌ في استقبال يومٍ جديد”، دون أَيِّ إِشارةِ مدحٍ إِلى الرئيس الجديد.

          هكذا إِذًا: يَرفع الشعر من مستوى السياسة. من هنا تصريح كيندي بُعَيْد أَيامه الأُولى في البيت الأَبيض: “أَعجبَتْني شجاعة فروست. لم أَعتبر يومًا عالَمَ السياسة منفصلًا عن عالَمِ الشعر. بل أَرى بين السياسيين والشعراء أَمرًا مشترَكًا: الشجاعة في مواجهة تحديات الحياة”. يومها علَّق الشاعر الأَميركي وليم ميريديث (1919 – 2007): “بادرةُ جون كيندي دليلُ أَنه رئيس سيرعى الثقافة على عهده لأَنه مثقَّف ويعرف دور الثقافة الأَساسي في نهضة أُمتنا”.

 

التجربة المصرية

          حين يكون الحاكم رؤْيويًّا، يعرف أَنَّ ما يخلِّد حُكْمَه هو ما يتحقَّق في عهده من أَعمال إِبداعية، لا من إِنجازات سياسية عابرة زائلة، تبقى آنيَّةً مهما دار حولها الكلام فترتئذٍ. وهو ما حصل مع الخديوي إِسماعيل في القاهرة، حين انتهى شقُّ ترعة السويس (1869) وأَراد أَن يخلِّد الحدَث العظيم باحتفال عظيم. سأَل مستشاريه – وهم عادةً مداهنون متزلِّفون يُسمِعون الحاكم ما “يحب” أَن يَسمعه لا ما “يجب” أَن يَسمعه – فاقترحوا عليه دعوة الشعراء يمدحونه والمغنين يتصايحون له. لم يقتنع. سأَل صديقًا له إِيطاليًّا. اقترح هذا عليه الاتصال بمؤَلف موسيقي إِيطالي يضع عملًا للمناسبة. وهكذا كان. تَمَّ الاتصال بجيوزيـﭙـي ڤـيردي، فوَضع أُوﭘـرا “عايده”. واليوم: غاب ڤـيردي (1901) وغاب إِسماعيل (1895) وغاب تاريخ الحدَث في صالة الأُوﭘـرا الخديوية (24 كانون الأَول 1871)، وباقيةٌ خالدةً في الزمان  أُوﭘـرا “عايدة”، أَنَّى عُرِضَت في العالم، وفي أَيِّ لغة، يُذكَر أَن مؤَلفَها وضعَها بطلب من الخديوي إِسماعيل. وبذا ضمَن الحاكم خلوده بعمل فنِّي خالد لا بأَيٍّ من إِنجازاته الخديوية السياسية.

أَمس واليوم وغدًا

          عن كتَّاب السيرة أَن بيتهوڤـن كان يومًا يمشي في أَحد شوارع ڤـيينا مع صديقه الشاعر غوته، حين سمع الأَخير جلبةً عند ناصية الشارع. وإِذ التَفَتَ رأَى آتيًا موكبَ الملِك، فانتظر اقترابه حتى إِذا مرَّ به رفَع قبعته وانحنى مصفِّقًا للموكب. ثم التفَتَ ثانيةً فلم يجد حَـدَّهُ بيتهوڤـن الذي كان أَكمل طريقه غير آبهٍ بالموكب الملَكي. وحين التحق غوته بصديقه مسائِلًا إِياه عمَّا فعل، أَجاب بيتهوڤـن: “هذا الرجل هو اليومَ ملِك. غدًا لن يعود ملِكًا ويذهب إِلى النسيان. لكنني بيتهوڤـن الباقي في الزمان اليوم وغدًا وكل يوم”.

          قليلون يعرفون كم شارعًا شقَّ في ﭘـاريس لويس الرابع عشر، أَو كم مرسومًا مَلَكيًا أَصدر وما كانت مفاعيلها، هو الملِك الشمس الذي كان مالئًا زمانَه في فرنسا. لكن الجميع، في كل عصر، يعرفون فضْلَ لويس الرابع عشر في فتْح أَبواب قصر ڤـرساي وباحاته للشعراء والمؤَلفين المسرحيين والموسيقيين، وُلِدَت فيه روائعُ نهضة أَدبية طبَعت عصره في القرن السابع عشر، وما زال ذكْرها يتجدَّد كل عصر، ويتجدَّد بفضلها ذكْر “الملك الشمس”.

          ومن تاريخنا اللبناني الحديث، مثالًا لا حصرًا: قليلون يعرفون كم حكومةً شكَّل الرئيس كميل شمعون في عهده، وكم نائبًا كان له في الـﭙـرلمان، وكم مشروعًا حقَّق في عهده. لكنَّ الجميع، في أَيامه وبعدَها وإِلى المقبل من الأَيام، يذكرون بأَنه حقق سنة 1956 مهرجان بعلبك الذي بات مع السنوات عنوانًا عالميًا للبنان، أَطلَق عن أَدراجه عبقرياتٍ لبنانيةً، واستقبلَ أُخرى من العالم، ما إِن يُذكر المهرجان حتى يُذكر معه مؤَسسُه الرئيسُ اللبناني.

          هذا هو قدَر الحاكم، كل حاكم في كل عصر ومكان، أَن تُخلِّد اسمَه وعهدَه أَعمالٌ فنية وأَدبية يُذكَر معها، طويلًا بعد غيابه، كلَّما جِيْءَ على ذكْره أَمس واليوم وكلَّ يوم.

كلام الصُور

“النهار”: الدولة تقف لميخائيل نعيمة

روبرت فْروست : توَّج ولاية كينِدي

مايا أَنجلو: توَّجَت ولاية كلنتون