هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

توقيع “جبران.. شواهد الناس والأمكنة” (مقر اللجنة- 2012/6/22)


من اليمين: المحامي ألكسندر نجار- رئيس لجنة جبران د. طارق شدياق- الشاعر محمد علي فرحات والشاعر هنري زغيب

كلمة الكاتب المحامي ألكسندر نجار في ندوة كتاب هنري زغيب
“جبران خليل جبران – شواهد الناس والأمكنة”

____________________________________________
في مقدِّمة ميخائيل نعيمه لكتابه عن سيرة جبران، اعترف بصعوباتٍ يواجههـا الكاتـب فـي سـعيه لأن يجمـع بيـن دفتـيّ كتاب مسارات حياة ليست حياته: “كلُّ ما يرويه الناس عن الناس باسم التاريخ ليس إلاّ رغوة متطايرة فوق بحر الحياة الإنسانية. أما أعمال الإنسان وآفاقه فأعقد وأوسع من أن يتناولها قلم أو يستوعبها بيان (…). وحياة كل إنسان “أسرارٌ” يكتمها عن الناس. وأنا وقفتُ على البعض من أسرار جبران وفاتني منها الكثير. فهل يليق بي أن أبوح ولو ببعض البعض الذي أعرفه”؟
وبالفعل: جبران لغزٌ دائم وتحدٍّ مستمرّ للباحثين. فغالباً ما نعثر على مخطوطات أو رسائل غير منشورة تجعلنا نتعمّق أكثر بشخصيته، ونكتشف نواحِيَ جديدة من سيرته، كأن جبران أراد، بعد وفاته، أن يبقى في تجدّد دائم.
خلافاً لما يعتقد البعض: مَـحدُودٌ جداً عددُ الباحثين اللبنانيين في حياة جبران وأعماله، لأن جبران متعدّد المواهب والوجوه واللغات حتى ليصعب على الباحث الرصين حصره بصورة ثابتة. وأعماله لا تدخل في خانة محدّدة. فكتاب “النبي” مثلاً ليــس كتــاب فلســفة ولا كتــاب شــعر ولا كتاب وجدانيات ولا قصة. هو كل ذلك في آن، وتالياً غير قابل أيّ تصنيف، ما يشكّل في نظر النقّاد عائقاً للتحليل والدراسة .
***
الشاعر هنري زغيب من القلائل الذين تمكّنوا من فهم جبران وسبر بعض ألغاز تكتنف مسيرته. وها هو كتابه الأخير “جبران خليل جبران – شواهد الناس والأمكنة “، يُثبتُ أنه صحافي وباحث وأديب في آن.
– هو صحافــيٌّ لأنــه يجمــع في كتابه مقالات قيّمة نشرها في بعض الصحف، ولأنه نجح في تقصّي المعلومات والتحرّي عن شخصيات عاصرت جبران، ولأنه تميّز بفضولٍ “صحافـيٍّ” دفعَه إلى السير على خطى جبران في واشنطن وبوسطن وغيرهما من المدن بحثاً عن حقائق جديدة، وأجرى مقابلات “حيّةً” مع عدد من أصدقاء مؤلّف “النبي” .
– وهو باحث لأنه دقّق في المصادر وحلّل معطيات استحصل عليها بعيداً عن أساطير وخرافات حاكها البعض حول شخصية جبران وحياته . فهنري زغيب، وإن كان وطنياً بامتيازٍ وحريصاً على صورة وطن الأرز ورسالته التاريخية، لا يجامل جبران ولا يجمّله، بل يعرض مصيره بصورة علمية وموضوعية.
– وهو أخيراً أديبٌ لأن أسلوبه في هذا الكتاب سرديٌّ مُشَوِّقٌ يجعل قارئَه متعطّشاً لمعرفة المزيد، ولأن متانة لغته التي اختبرناها في دواوينه الشعرية، هي حاضرة أيضاً في كتابه الأخير المتميّز بأسلوبٍ حيٍّ وسلس.
يبدأ هنري زغيب كتابه بسلسلة مقابلات وذكريات من أشخاص عاصروا جبران وعرفوه، أمثال أندرو غريب، فؤاد خوري، المونسنيور منصور أسطفان، ماري هاسكل، ميخائيل نعيمه، مي زيادة، باربره يونغ، الأرشمندريت أنطونيوس بشير، يوسف الحويك، نخله سكّر، فسلّطت هذه الشواهد أضواء جديدة على جبران الكاتب والفنان والإنسان والمهاجر والصديق والقريب والعشيق. ولعلّ هؤلاء الأشخاص مرآة تعكس لنا صــورة جبران الحقيقية مــع ما تتضمّنه من قناعات وتناقضات.
في القسم الثاني ينتقل هنري زغيب إلى أماكن عاش فيها جبران بدءاً من بشري فيحدّثنا الكاتب عن متحف جبران ومنزله قبل انتقاله إلى نيويورك وواشنطن وميريلند وفيلادلفيا ونيوجرزي وصولاً إلى دايتونا بيتش، ويعود بنا إلى بيروت حيث يكشف هنري زغيب عن فضيحة أن السلطة في لبنان منحت جبران “مِداليةً من الدرجة الثانية” بدل تكريمه بأرفع الأوسمة، كأنما تلك السلطة كانت متردّدة أو خجولة لدرجة الحماقة.
أهمية هذا القسم الثاني أنه يؤكّد لنا وجود “جغرافيا الأديب”(géographie de l’écrivain) مثلما توجد جغرافيا للأوطان. فجبران من دون بشرّي ليس جبران، ولولا بشرّي لجاءت كتاباته ورسومه خاليةً من رموزٍ وصُوَرٍ وذكرياتٍ زوّدتْه بها أرضه خلال الطفولة والمراهقة. ولولا بوسطن لما تعرّف جبران على الفنّ والثقافة، ولولا باريس لَـما تعَلَّمَ تقنيات الرسم، ولولا نيويورك لَـمَا أبدع في اللغة الإنكليزية ولَـما أصدر كتُبَه لدى الناشر الشاب ألفرد كنوف ولما رأى “النبي” النور.
القسم الثالث والأخير من الكتاب يكشف نواحِيَ مستترة من حياة جبران، منها جبران العاشق، وحنينُهُ الدائم إلى لبنان، وحقيقة عبارة “لا تَقُلْ ماذا فعَلَتْ لي أمّتي بل قل ماذا فعلتُ أنا لأمّتي”، ألقاها الرئيس جون كيندي نقلاً عن جبران، وهي عبارة نحن في أمسّ الحاجة إليها اليوم في زمن تَغِيب فيه الدولة وتعجز فيه الحكومات!
***
كتابُ هنري زغيب كتابٌ تفخر به المكتبة اللبنانية لأنه يضيف الكثير إلى معرفتنا عبقرياً من عباقرة الشرق. فهو يبيّن لنا موهبته النادرة، وقدرته على التأقلم مع بيئةٍ كانت بعيدةً جداً عن بيئته الجبلية، كما يُظهر، في الوقت عينه، عدم إنكار جبــران جذوره وتوقه إلى لبنان، وحرصه على التواصل الدائم مع اللبنانيين في المهجر.
وهذا الكتاب يؤكّد لنا، مرّة جديدة، حرص المؤلّف على صون التراث اللبناني، وهنري زغيب، منذ مطالعه، يحمل هَمَّ لبنان وصليب لبنان وتراث لبنان، ويضيءُ على ماضينا العريق وعمالقة الأدب اللبناني المعاصر، ليقينه أن الثقافة هي الدرع التي تحمي وطننا، وتُؤمّن له الاستمرارية حتى في أصعب المحن، ولعلمه أن الهوية اللبنانية عنوانُ وحدتنا الوطنية، ومصدر إيماننا بمصيرنا المشترك في وطن نهائي لا يقبل الانصياع إلى سياسات الآخرين، أو الركوع أمام سلاطين المال والسلاح.
يقول أندريه مالرو : “La culture ne s’hérite pas, elle se conquiert” (الثقافة لا تُورَث بل يجب غزوَها”) أي لا ينفع الوقوف على الأطلال، والتغنّي بالماضي العريق فيما البلد يحترق.
هنري زغيب، بديناميَّتِهِ المعهودة التي تُناقض خمول مثقفي المقاهي الحالمين أو المتعجرفين، يعلِّمُنا أن المثقَّف الحقيقي هو المثقَّف الجبراني ، بـمعنى المثقَّف المناضل المؤمن الفاعل المنفتح والمخلص.
فعسى يستفيق مثقَّفونا في لبنان والعالم العربي ويسيرون إلى نهضةٍ جديدة تستلهم عنفوانها وثوابِتَها من تلك التي عاش من أجلها جبران خليل جبران.

[b]كلمة رئيس لجنة جبران الوطنيّة الدكتور طارق شدياق[/b]

في الندوة عن كتاب هنري زغيب “جبران خليل جبران – شواهدُ الناس والأمكنة”
باسمي وباسم زملائي أعضاء “لجنة جبران الوطنيّة” أرحّب بكم وأشكر حضوركم الكريم إلى هذا اللقاء حول كتاب الشاعر هنري زغيب “جبران خليل جبران – شواهد الناس والأمكنة”. وبهذا اللقاء نفتتح في “لجنة جبران” سلسلة طاولات مستديرة نضيء بها على جبران والمبادئ والقيم التي تحدّث عنها وعاشها، وعن مشاكلنا الثقافيّة والإجتماعيّة العامّة التي صَمَتَ الكثيرون عن إثارتها رغم أهميّتها في هذا البلد المتعب بترّهات السياسة السخيفة.
كتاب هنري زغيب يكمل ما نعرفه عن جبران، ويضيء على أسئلةٍ تختزنها حشريّتنا من نوع: هل كان جبران دائماً حزيناً أو منعزلاً؟ هل كان لديه حسّ الدعابة؟ هل كان يضحك؟ هل كان له أعداء؟ هل كان يغضب أم كان خجولاً؟
ويجعلنا هنري زغيب نتساءل معه: هل هو من يلاحق جبران أما جبران يلاحقه؟ والسؤال مشروع إذ شعر الكاتب، وهو في الولايات المتحدة، بتلك الجيرة الافتراضية الروحانية الصامتة مع جبران، يوم كان في المدينة نفسها والشارع نفسه حيث سكن جبران سنوات.
ومن خصائص الكاتب أيضاً
أولاً: قدرته على إدخالك الى عالم جبران بسلاسة الأديب وجمال الشاعر وتركيز الصحافيّ، ودعوتك إلى أن تكتشف ذلك العالم وتسعد كما فعل هو يوم دخل.
ثانياً: قدرته على بلوغ القارئ بسهولة العالـِم المتمكِّن، ربما لكونه شاعراً اختبر جمال الكلمة، أو لأنه تمكّن من تطويع اللغة وأحسن لعبة اختيار المفردات، كما في سائر مؤلفاته، أو ربما للأمرين معاً.
ثالثاً: خياره فعل التبشير بلبنان. فمتى قلتَ هنري زغيب قلتَ لبنان الذي حوَّلَ بياضه “حبة لولو” سَقَطَت من دمع السماء.
والكاتب معنا اليوم، والكتاب أمامنا، نضيء عليه مع مُـحاورَين قادرَين: الأستاذ المحامي ألكسندر نجار والأستاذ الشاعر محمد علي فرحات.
واسمحوا لي، بدايةً، أن أقرأ من رئيس الاتحاد العالمي للدراسات الجبرانية الدكتور سهيل بشروئي رسالةً أرسلها إلينا من جامعة ميريلند، أراد بها يشاركنا في لقائنا هذا المساء.

[b]كلمة محمد علي فرحات في ندوة كتاب هنري زغيب “جبران خليل جبران: شواهد الناس والأمكنة”
[/b]
كأنما هنري زغيب يبحثُ عن اللبنانـيّ حين يبحث عن جبران، فيسْهِم في ترميم صورته من نِثارِ بشَرٍ وأمكنةٍ حيث كان جبران حاضراً في منشأ التكوين وفي تجربة العطاء، كأنّما يبحث عن اللبنانيّ المرتجى وصورتِه في طبيعةٍ ملهمَةٍ ووجدانٍ يتشرَّب ثقافات متنوعة وحضوراً يطاول الانسان أينما كان.
كتاب “جبران شواهد الناس والأمكنة” فعْلُ خوفٍ من ضَياع الشهود والـمَشاهد، وفرحٌ في القبض على أقوالٍ وعلاماتٍ قبل أن تُذوّبها الأيام، لذا نلمح هذا الأسلوبَ الحماسيّ والإحساسَ بالظفَر حين يسجّل المؤلف معلومةً أو إضافةً إلى ما كُتِبَ عن جبران، بحيث يُصبحُ الكتابُ مفيداً للباحثين في إعادة صَوغٍ مستمرة لشخصية جبران وأدبه وفكره وفنه.
هذه الإضافة تتركّز على جبران الانسان كما حضنَتْه بيئته الطبيعية والمدينية، وكما رآه عارفوه وتفاعلوا معه، وكما أعاقَتْه ظروفُ الحياة والثقافة، فاستطاع التغلُّب بتركيزه على أولوية الإبداع وتحصين شعلة نفسه.
في لبنان والولايات المتحدة اصطاد هنري زغيب شواهدَه: أندرو غريب الذي رأى جبران محباً للانزواء “ودائماً على حزن مكتوم وشوق إلى أوقات يعيشها في الطبيعة واعياً حجمه المتصاعد إلى العالمية”، وأنه “أنيق الخط والهندام والكتابة”. وجبران، بحسب أندرو “كان يساعد رفاقه (الأدباء) ويدعمهم مادياً. كان لهم مظلّة في نيويورك. تفرّقوا بعد وفاته كأنما انكشفت رؤوسُهم”. هذه الإشارة تجد مصداقها في حجم مردودٍ مادي لكتب جبران بالإنكليزية التي كان ينشرها كنوف ويقْبِل عليها الأميركيون، وتندرج في هذه الكتب ترجمات أندرو غريب لمختارات من كتابات جبران العربية نشرها كنوف في كتاب. يقول أندرو إنّ كتابه صدر سنة 1934 وعاد عامئذٍ إلى لبنان فكان كنوف يرسل إليه حقوق الترجمة بمعدل أربعة آلاف دولار سنوياً، مبلغ بقي يَرِدُهُ سنواتٍ مع تكرار طبعات كتابه الذي أصبح من مجموعة جبران الكلاسيكية. وإذا احتسبْنا القوة الشرائية لهذا المبلغ في تلك المرحلة، ندرك حال جبران المادية في السنوات القليلة (دون العشر) التي سبقت وفاته، وندرك معنى كلام أندرو عن انكشاف رؤوس الأصدقاء، والأرجح أن ميخائيل نعيمة كان واحداً منهم.
وفي شهادة المونسنيور منصور أسطفان أنه جمع نصوصاً عربية من أعمال جبران وسماها “البدائع والطرائف” وأصدرها في القاهرة، والأرشمندريت أنطونيوس بشير نقلَ إلى العربية عدداً من مؤلفات جبران الانكليزية وأصدر معظمها في القاهرة. وكانت الصحافتان المصرية واللبنانية تعيدان نشْر كتابات جبران عن الجرائد والمجلات المهجرية، ما جعل جبران ورفاقه في الرابطة القلمية وعدداً آخر من المهجريين حاضرين في دفع الأدب العربي إلى الحداثة بدءاً من ملامح تيار رومنطيقي لا يخطئ الدارسون إذا وجدوا فيه تأثُّراً بحنين المهجريين، إلى جانب الأثر الأدبي الفرنسي ومتطلبات لحظة حضارية أفرزت وعياً فردياً للانسان في منطقتنا ودفعته إلى التحرر من التقليد ومن إرادة الجماعة.
وبين ماري هاسكل التي يؤلّف هنري زغيب صورتها من نسيبتها إليزابيث ديفيس ومصادر أخرى، وباربرة يونغ التي يسجّل زيارتها إلى لبنان بعد موت جبران، تحضر أمامنا صور نساء تحلَّقْن حول صاحب “النبي” وترجَّحن بين حنان يعطي وأنانية تستحوذ. وتنفرد مي زيادة التي نسجَت علاقة روحية مع جبران بالرسائل المتبادلة لتدل إلى أن لقاء النفوس لا يأبه بالمسافات، وأن البحث عن اليقين والتشاور الروحي حول مسار الحياة ونوع الخلاص هو ما جمع لبنانيّاً مقيماً في أميركا مع لبنانية ناشئة في فلسطين مقيمة في مصر، وكلاهما يقيم روحياً في مكان مشترك لعله لبنان المرتجى، دائماً المرتجى.
ويرسم هنري زغيب صورة أمين الغريب الذي فوجئ بجبران أثناء زيارته بوسطن فتعهّد نصوصه ونقّحها ونشرها في جريدته “المهاجر”، وهو أول الكُتَّاب الذي شجّعوا جبران وقدّموه إلى النخبة المهاجرة في نيويورك، ومنها كان الانطلاق.
كما يشير هنري زغيب إلى لقاء جبران يوسف الحويك في باريس وحلمهما المشترك بأعمال فنية في لبنان.
ويفاجئنا في الكتاب نشْرُ محضر الحجز الاحتياطي لبيت جبران في بشري وبيعه بالمزاد العلني سداداً لديون مستحقة لم يدفعها جبران أو شقيقته خلال فترة الانذار الوجيزة فسجَّلت محكمة قضاء البترون أنه “مجهول الإقامة”. كان ذلك عامي 1912 و1913 أثناء عهد المتصرفية، وهو حدَثٌ ترك مرارة لدى جبران ومريانا، عبرت عنها الأخيرة بالإصرار على عدم المبيت في بشرّي بعدما رافقت جثمان شقيقها الى حيث يثوي.
ومن “شواهد الأمكنة” إشارةٌ إلى أول اعتراف أميركي أكاديمي بجبران ومؤتمر دولي عنه في جامعة ميريلاند – كولدج بارك عام 1999، وخلف الاعتراف والدعوة الدكتور سهيل بشروئي منشئ كرسي جبران في الجامعة.
ومن الشواهد أيضاً نسخة طبق الأصل عن بطاقة جبران المريض المتوفى أُخِذَت من أرشيف المستشفى النيويوركي.
وندرك في ثنايا الوثائق أن جبران لم يتقدَّم للحصول على الجنسية الأميركية وبقي هناك لبنانياً في وضع الإقامة الدائمة. وهوية جبران الرسمية مرّت في مرحلتين: الأولى انتماؤه إلى كيان المتصرفية الذي يتبع في السياسة الخارجية السلطنة العثمانية، من هنا ما ورد في رسالته إلى صديقه نخله سكر وينشرها هنري زغيب للمرة الأولى، وفيها: “فإن شئت ان تكتب إليّ فابعث بالجواب إلى عنواني القديم أو إلى مركز السفارة العثمانية في باريز”، ويردف في الرسالة: “وربما ذهبتُ إلى الآستانة لتمضية أسبوعين محققاً بعض آمال في النفس”. والمرحلة الأُخرى هي انتماؤه إلى دولة لبنان الكبير التي نشأت رسمياً بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة العثمانيين، وكان جبران من المناضلين ضدّ سطوة الإدارة العثمانية أثناء الحرب ودفعها الكثير من اللبنانيين إلى الموت جوعاً.
ومن خلال التحقيق عن ظلال جبران في مرجحين، المنطقة الجبلية الواقعة بين قمم بشري ومدينة الهرمل في السفح، نتلمّس مهد خيالٍ لدى جبران الطفل والفتى في تلك الطبيعة النقية استمرّ يغذي الكتابة الجبرانية حتى سقوط القلم من اليد. وكانت عائلات بشري تتوزع في بلدات المنحدرات وصولاً إلى السفح وأول البقاع، وفي بشري وعيناتا ودير الأحمر صلة اجتماعية بعشائر الهرمل. ولا ننسى أن الهرمل والبلدات المذكورة كانت معاً جزءاً من كيان المتصرفية. وأشار هنري زغيب إلى كلام للرئيس الراحل صبري حمادة على إقامة مديدة لوالد جبران في مرجحين لأسباب قد تكون هرباً من انتقام، وأشارت شائعات إلى أن عائلة جبران كانت مسجلة في دائرة نفوس الهرمل خلال عهد المتصرفية. وهي مجرد شائعات فلا أحد إلى الآن اطلع على أرشيف دائرتي النفوس في بشري والهرمل، ويقال أن سجلات الأخيرة أحرقت في الفترة اللبنانية الصعبة بين الوحدة المصرية – السورية في شباط 1958 واجتماع فؤاد شهاب وجمال عبدالناصر في خريف السنة نفسها.
هكذا، وفضلاً عن تكوين الخيال الجبراني مبكراً في تلك البيئة (“منذ يقظتي الأولى، منذ كنت صبياً، منذ أيام مرجحين، وأنا أرى فيك ما لم أره في انسبائي” – يكتب جبران إلى نسيبه نخله في البرازيل)، نسجّل أن تكوين جبران الثقافي المتعلق بآداب اللغة العربية انطلق من إقامته القصيرة الغنية طالباً فوق العادة في معهد الحكمة، حيث منابت النهضة وكثير من أعلامها.
كتاب هنري زغيب مقلَعٌ غنيٌّ، ومادةٌ أولى لدراسات أوسع وأشمل، كأننا إذ نحاول الإحاطة بحياة جبران نحتاج سنوات أكثر من تلك التي عاشها.
إنه نحن في المرتجى. نحاول أن نرقى إليه. نفشل أو ننجح، لكننا نحاول.

رسالة البروفسور سهيل بشروئي – مؤسس ورئيس “الاتحاد العالمي للدراسات الجبرانية”
إلى اللقاء حول كتاب “جبران: شواهد الناس والأمكنة” للشاعر هنري زغيب
(مقرّ لجنة جبران الوطنية – بدارو – الجمعة 22 حزيران 2012)
ومن بعدها صدرت في جريدة “النهار”