هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

980: عندما صرخت المومياء

الحلقة 980: عندما صرخت المومياء
الأربعاء 2 شباط 2011

ما زال السِّرُّ يَلُفُّها حتى اليوم، منذ اكتشافِها سنة 1886:
هل في شفتَيها المفتوحتَين صَرخةُ أَلَم، أَمْ تعبيرُ قلَق، أَم فُرجةُ استغاثة؟
لَم يتوصَّلْ أحَدٌ بعد، عالِمَ آثارٍ كان أو مؤرّخاً، أن يُحَدِّد معنى هذا التعبير على وجهها المتروك منذ مئات السنين.
لذلك اصطَلح خُبراء الأُقْصُر على تسميتِها “المومياء الصارخة”،
وأجمعوا على أنها ذاتُ شأْن، وصاحبةُ تاريخٍ غيرِ ضئيل،
طالَما َوُجِدت مدفونةً إلى جانب الكبار كـرمسيس الثاني وتْحوتْمِس الأول.
ولعلَّها قضَت ضحيةَ تسميمٍ أو اغتيال، لأن تَحنيطَها غيرُ عاديٍّ بِموادّه المترَفَة الثمينة،
وقد تكون حُنِّطت في لحظة احتضارٍ أو في أعلى صرخات الأَلَم.
وظل السِّرُّ طويلاً يَلُفُّها في صمتٍ دهريٍّ عميق،
يفرِّقُها عن سائر المومياءات في متحف القاهرة
أنها الوحيدةُ التي لا تحمل اسمها على الناووس،
وأنها الوحيدةُ المحنّطةُ مفتوحةَ الفم، بينما شقيقاتُها المومياءات مغلقاتُ الشفاه في سكون الحركة.
كأنّما هي مرصودةٌ على حركة السكون.
كأنّما في تعبير وجهِها حركةُ صُراخ.
كأنها لا تنام، وتنامُ حولَها جميعُ المومياءات.
كأنها حارسةٌ شقيقاتِها من كلّ خطَر.
كأنها نهار السبت الماضي (وشوارعُ القاهرة تضُجُّ بالمتظاهرين رافعي شعاراتٍ إصلاحيةً واجتماعيةً وسياسية)،
إنما شعرَتْ بالخطر الداهم، وبإمكان أن يجتاح مخرِّبون متحفَ القاهرة في ميدان التحرير.
كأنها، في لحظة الخوف على شقيقاتها النائمات في هدوء المتحف،
خرجَت عن صمتِها الدّهريّ
وأطلقَت صرختَها عاليةً، مذعورةً، مرعوبةً من قبضات المخرّبين،
فارتَجّت لصرختِها أَرجاءُ المتحف الهادئ،
وخرجَت أصداءُ صرختِها إلى سماء القاهرة،
فسمِعَها الأهالي،
وهلَعُوا لصرخة “المومياء الصارخة”
مستغيثةً من هلَعٍ على ذاتها وعلى شقيقاتها وعلى كنوز جوهرةِ مصر: متحف القاهرة،
فهُرعَ الأهالي الطيِّبون،
العارفون قيمةَ المتحف وما فيه،
وَلَبُّوا صرخةَ “المومياء الصارخة”،
فتَحلّقُوا حول المتحف،
وَزَنَّرُوه بسياجٍ بشريٍّ رادِع،
كما ليُطَمْئِنُوا “المومياء الصارخة” إلى أنّ صرختَها لم تَضِع،
وأنهم سَمِعوها،
وأنهم جاؤوا ليَحمُوها،
ويَحمُوا شقيقاتِها،
ويَحموا كلّ ما في متحف القاهرة من روائع تاريخ مصر العريق،
ويَحموا ماضي مصر، وحاضر مصر، وَغَدَ الحضارة في مصر،
ولكي يقولوا إن المومياء ليسَتْ سَـكُوتاً،
بل عند اندلاع الخطر تعرفُ أن تكسرَ سُكوتَها وتُطلقَ الصرخة،
فيستجيبَ لصرختها الأهالي
المؤمنون بأنّ ما تُفرِّقه تَجاذُباتُ السياسة وما يُهَدِّمه انفلاتُ الأمن،
تُحَصِّـنُه حضارةُ البلاد،
وهي أحياناً طالعةٌ صرخةَ ضميرٍ حَيَّةً في سُـكوتٍ دهريٍّ ينفجر من فَمِ… “مومياء صارخة”.