هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

24: هنري العويط: الآفاق

الكلمة الأَحَبّ
ما الكلمة؟ مُجرَّد حروف؟ مضمونٌ ذو مدلول؟ شكلٌ ذو جمال؟ رمزيةٌ ذاتُ دلالة؟
للكلمة موقعٌ في الذات هو غيرُهُ في السوى. ترتبط بقارئها أو قائلها ارتباطاً ذا علاقة خاصة بأسباب ذاتية تختلف بين شخص وآخر.
كلمةٌ معيّنة بالذات: ماذا تعني لك؟ بِمَ توحي إليك؟ لماذا استخدامك إياها أكثر من سواها؟ لماذا تتكرّر في كتاباتك؟
هذه السلسلة: “الكلمة الأَحَبّ”، أسئلةٌ نطرحها على المعنيّين بالكلمة كي نصل الى خلاصة تحليلية عن اللغة ومدلول اللغة و”لغات اللغة” انطلاقاً من الوحدة الأولى الأساسية التي هي الكلمة.
بعد ثلاثة وعشرين جواباً من وليد غلمية وعبدالله نعمان وإملي نصرالله وأمين ألبرت الريحاني وجوزف أبي ضاهر وسلوى السنيورة بعاصيري وجوزف جبرا وزهيدة درويش جبور ومي منسّى وهدى النعماني وغالب غانم ومحمد بعلبكي وهشام جارودي وألكسندر نجار وجورجيت جبارة وغازي قهوجي وسمير عطالله وإلهام كلاّب البساط وأنطوان مسرّة وفاديا كيوان وريمون جبارة وسلوى الخليل الأمين وندى عيد، هنا الجوابُ الرابع والعشرون من نائب رئيس جامعة القديس يوسف للشؤون الأكاديمية/رئيس اللجنة الوطنية للأونسكو الدكتور هنري العويط.
هنري زغيب
email@henrizoghaib.com
____________________________________________________
_______________________________________________________
_________________________________________________________

24) هنري العويط: الآفاق
الأربعاء 24 تشرين الثاني 2010

أُحبّ هذه الكلمة بسبب طاقتها الإيحائيّة التي لا تنضَب.
حَسْبي أنّها تحملنا تارةً على التواضع، وتدعونا تارةً أخرى إلى الانفتاح، وتحثّنا في الأحوال جميعاً على الأمل.
الأماكن التي نقيم فيها مهما كبُرَت، والزوايا التي ننظر منها مهما اتّسعت، والمعارف التي نحصّلها مهما عظُمَت دائرتها، والحقائق التي نؤمن بها وإن استقيناها من منابع اليقين، حين نقيسُها على رحابة الآفاق ولامحدوديّتها تبدو أسيرة حدود الزمان والمكان، وعرضةً للنقد أو المراجعة، وبنت النسبيّة، وقبساتٍ أو عناصرَ أو ملامحَ لا ترتقي إلى مرتبة الكليّات.
من النظر إلى الآفاق، والتأمُّل في ما تختزنه من دلالاتٍ على، أو إشاراتٍ إلى المُطلَق واللامتناهي، نتعلّم أن نعترف بما يفرضه علينا شرطُنا البشريّ من حدود، وبأنّ الحقيقة أشمل من مقاربتنا إياها جزئيّاً، فنتخلّى عن ادّعائنا امتلاكَها واحتكارَها، ونروّض أنفسنا على فضيلة التواضع.
الآفاقُ تدعونا إلى التمرّس بمزيّة الانفتاح. غالباً ما نتحدّث عن الأبواب الموصدة، أو الحائط المسدود، أو الطرقات المقطوعة، أو سُبل عيش ضاقت، وهي أوصافٌ لا نُطلقها على الآفاق لأنّها بطبيعتها مشرّعة ومفتوحة، في مشارق الأرض كانت أم في مغاربها، وراء أمواج البحر أو عند أطراف الصحراء. والانفتاح الذي تدعونا الآفاقُ إلى عوالمه ومداه هو نقيض الانغلاق، في أنماطه كافّةً، وفي أشكاله وألوانه ومظاهره وآليّاته شتّى. إنّه نقيض الأنانيّة، وقبْض اليد، والتعصُّب، والأصوليّات، والتقليد الأعمى، والتحجُّر، والجمود. تعلّمنا الآفاقُ الانفتاح على العالَم، بما يَعبُر الحدود ويتجاوزها ويُلغيها. وتُعلّمنا الانفتاح على الآخَر بتخطّي الحواجز التي تفصلنا عنه أو تُبعده منّا، وبالاعتراف به وبحقوقه المشروعة بما فيها حقّ الاختلاف. إنّه انفتاح الفكر والقلب معاً، والالتزام بمسيرة التجديد المستمرّ والتجدّد المتواصل، وقبول الانخراط في مغامرة الكشف الدائم.
والآفاقُ تحثّنا على الاعتصام بالأمل: في صمتها البليغ توجّه إلينا النداء تلو النداء، لنغالب اليأس (وما أكثر دواعيه)، ونَنشُد التغيير (وما أحوجنا إليه). فانقشاعها بعد اختفاءٍ يؤكّد لنا أنْ مهما تقلّصت فسحات الأمل وتلبّدت سماء حياتنا بالغيوم، وانحجبت الرؤية أو تعطّلت الرؤيا، ثمّة رجاءٌ لا يخيب بانبلاج الفجر وبزوغ النور.
ولعلّ أجمل ما في الآفاق أنّها تحفّزنا. كلّما بدا لنا أنّنا اقتربنا منها، زادت عنّا ابتعاداً، مجسّدةً جدليّة الواقع والحلم في أجلى مظاهرها. كأنّها تستفزّنا وتحرّضنا، بل تشحذ منّا العزائم وتدعونا إلى الإيمان بأنّ بلوغ الهدف رهنٌ بقبول تحدّي السعي الدؤوب إليه.
أُحبّ الآفاق، ومن إدامة النظر إليها أَستمدّ أمثولاتٍ وعِبَراً وباعثاً على الأمل.
أُحبّ الآفاق.
أحبّ هذه اللفظة وما تُرجِع إليه في واقع المرئيّات.
أحبّ هذه الكلمة دالاًّ ومدلولاً.
___________________________________________
*) الأربعاء المقبل- الحلقة الخامسة والعشرون: منير أبو دبس.