هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

793: متعة التفرّج والتدرُّج في باريس

الحلقة 793: متعة التفرُّج والتدرُّج في پاريس
الأربعاء 1 نيسان 2009

الثانية بعد ظهر أمس الثلثاء، افتتحَت بلدية پاريس خطاً جديداً للدراجات الهوائية يمتدّ الى أحياءَ جديدةٍ من العاصمة التي تشهد، منذ تموز 2007، حركة دراجات ناشطةً في مَمرات خاصَّة بالدراجات ضمن خطوط بيضاء في مُحاذاة الطريق العام.
هذه الظاهرة (واسْمُها في الفرنسية Vélib أي اختصار Vélo Libre) تشبه نظام السيارات الْمُستأجَرَة التي يستلمها سائقُها من مكانٍ ويصل بِها الى مكانٍ آخر يسلِّمها فيه ويَمضي. وبإطلاق پاريس ظاهرةَ الدراجات (الممنوعة على مَن دون الرابعةَ عشْرة لضرورات السلامة الشخصية والعامة)، غَنِمت العاصمة الفرنسية ثلاثةَ عناصر: التخفيفَ من تلوُّث الجوّ من نوافث السيارات بثاني أُكسيد الكربون، والإفساحَ للسيّاح والمواطنين بالتجوّل العملي في شوارع پاريس بأجرة أقلّ وإرهاق محفظتهم أقلّ، والتمتُّع أكثر بتفاصيلَ لا تَبْلُغُهُم وهُم في السيارة، والحفاظَ على البيئة والسلوك المدني والمواطنيّ. بلوغاً الى هذه الأهداف، أصدرت البلدية 600 ألف مطويةٍ تعطى واحدتُها لكل مستأجر دراجة، فيها توجيهاتٌ وتعليماتٌ وإرشاداتٌ لاحترام التجوُّل المديني، وإعطاء الأفضلية للمشاة، ومراعاة قوانين السلامة وحقوق الآخرين وأولويات المرور، والمطوية في حجم خارطة مترو صغيرة يقرأُها الدرَّاج ويضعها في جيبه عند استلامه الدرّاجة قبل أن ينطلق بِها، مستأجراً إياها لِمرةٍ واحدة أو شارياً بطاقةً سنوية شبيهةً ببطاقة الباص أو المترو.
في هذا المناخ المسؤول من الحرص على سلامة المواطنين والحفاظ على البيئة، وضَعت بلدية پاريس عشرين ألف دراجة في تصرُّف مستأجريها وسنَّت قوانينَها وتَحديدَ سرعتها وقواعدَ استعمالها وإطلاقَها على الطرقات العامة. كما أسَّسَت موقعاً إلكترونياً خاصاً بتلك الدراجات، فيه معلومات عن أماكن استئجارها وأماكن إيداعها والخطوط التي يسلكها الدراجون والمعالم التي يمكنهم قصدُها للسياحة أو للترفيه. وجعلت شعار هذه الظاهرة: “المدينةُ أجملُ باكتشافها على دراجة”.
وبذلك فتحَت پاريس أُفقاً جديداً للسياحة الداخلية فيها، شجّعت عليه الدرّاجين وأرشدتْهُم الى الحدائقِ العامة، والغاباتِ الخضراء، ومرتفعاتِ پاريس المطلَّة على المدينة، والْمُتَنَزَّهاتِ الهادئة، والمباني الأثرية، والمعالِمِ السياحية والثقافية، وأمَّنَتْ أمامَها مواقفَ للدرّاجات حِمايةً لَها من السرقة أو الضرر، فضمنَت الدولة احترام الدرّاج الأمنَ وحقوقَ الآخرين، ولم تَجِد حَرَجاً بعدها من طرح الدرَّاجات حَلاًّ بديلاً لتوفير الطاقة وتَخفيف التلوُّث وزحمة السير.
هكذا تتصرَّف الدولةُ الدولة: تضع الخدمات في تصرُّف مواطنيها، لكنها تنبّهُهم وترشِدُهم وتُعْلِمُهم وتُعَلِّمهم، قبل أن تتَّخذ في حقهم إجراءات إذا خالفوا. وإلاّ ما فائدة مصادرة الدراجات وتكسيرها حين لا تنظّم الدولة القطاع وترشد المواطنين الى القانون والسلوك المديني وتأمين مواقف للدراجات وتسهيل الحصول عليها وتسليمها وتنظيم التصرف العملاني أمام المواطنين؟
مهمّة الدولة أن تنظّم، وتُعْلِم، وتنبّه، وتُحذّر، ثم تعاقب المخالفين بعدما تكون نظّمت الصح، ووعّت على الخطأ.
وهذا هو دورُها الناظم والحازم، وحضورُها الراعي والداعي، وهي ذي هيبتُها الحاضنة والضامنة كي تكسب ثقة المواطنين قبل رهبتهم أمام هيبتها.