هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

339: أنقذوا أوركسترا من التشرُّد

السبت 10 كانون الثاني 2004
– 9 3 3 –
أنعم ستالين على العبقري الْموسيقي الروسي ديْمتري شوستاكوفيتش (1906-1975) بِمنْزل جميل على إحدى هضاب موسكو، تقديراً له كي ينصرف الى التأْليف. وما هي حتى علم الْمؤلف الْموسيقي بتخطيط لِمدّ سكة الْحديد قريباً جداً من الْمنْزل، ما سيفسد عليه خلواته التأليفية. كتب الى ستالين بذلك فجاء ردُّ هذا الأخير صارماً حازماً جازماً: “يتغير التخطيط ويبتعد الْخط كلياً عن تلك الْهضبة”.
في آخر أيام هتلر، بعدما حَدَس بقرب انكساره، طلب هدنة عسكرية، نالَها لا ليَهرب هو أو لإنقاذ فيلق من جيشه، بل لتَهريب الأوركسترا السمفونية الألْمانية بعناصرها وآلاتِها ومكتبتها خارج دائرة الْخطر.
هذان مثالان لديكتاتورين فظّين عملا للموسيقى ما لَم يعمله حاكم أو قائد يدَّعي العدالة و”الديمقراطية”، لأنّهما كانا يدركان أثر الْموسيقى في حياة الشعوب، وأهمية تغذية الْمواطنين بالأعمال الْموسيقية التي تُهذّب النفس والروح والذائقة الفنية فترقى بالشعب الى مستوى أعلى من الْحضارة والتمدّن.
مثال آخر: الدانْمارك تُحصي اليوم أقل قليلاً من خمسة ملايين نسمة. ومع ذلك، في كوبنهاغن (مليون نسمة) دار أوبرا، وثلاث قاعات للأوركسترات السمفونية (بدوامين: 8:30 للموسيقى الكلاسيكية، و10:30 للموسيقى المعاصرة)، وفي ثلاث مدن أخرى: آهوس (دار أوبرا وصالة كونشرتوات)، أودِنْس (صالة كونشرتوات)، وأولْبورغ (صالة كونشرتوات). وتَحضرنِي الدانْمارك لقرب عدد سكانِها من سكان لبنان.
ونَحن؟ ماذا عندنا نَحن؟ عندنا – الْحمد لله ولِجهود وليد غلمية – أُوركسترا سِمفونية واحدة (تنبثق عنها، مداورةً وبِحسب الْمعزوفات، فرقة موسيقى حجرة) وأُوركسترا شرق عربية واحدة. لكنَّ أياً من تينك الفرقتين الكبريين (أو الصغرى) ليس لَها “بيت”، ولا تزال غجرية تائهة متشردة بين قصر الأونسكو (حينما، ذات ليلة مَحظوظة، يفرغ من كثير التافه بين عروضه)، وكنيسة القديس يوسف (الْجامعة اليسوعية – شارع مونو)، ومسرح بيار أبو خاطر (حرم العلوم الإنسانية للجامعة اليسوعية – طريق الشام).
وإذا ما احتسبنا كلفة نقل الْمعدّات كل مرة (بِمعدل مرة كل أُسبوع، وأحياناً مرتين في الأُسبوع الواحد)، وخطر التلف والأضرار الذي يترصد الآلات كل نقلة في كل مرة، وإزعاج تشريد الْجمهور (الْمتنامي حسياً وعينياً وعددياً مع كل أمسية في أينما تكون الأمسية) وهو يلحق بأوركستراهُ ويهرع لَهيفاً كي يَجد مقاعد متاحة بعدما باتت الأماكن تضيق بروادها، نَجد دولتنا قاصرة عن تقدير ما كان “خصم الديمقراطية” الْمرحوم جوزف ستالين و”عدو الْحرية” الْمغفور له أدولف هتلر يريانه جديراً بالْمحافظة عليه من أجل ترقية الْمواطنين.
شكراً لرئيس جمهورية ساعد في ولادة الأوركسترا، ولرئيس حكومة دعم ميزانيتها، ولوزير ثقافة تولى شخصياً متابعة إنشائها، ولكن الأمر اليوم بات ملحاحاً لتبادر السلطة الْحالية الى إنقاذ أوركسترانا الوطنية من هذا التشرُّد، على الأقل تشبهاً ولو بعيداً بِهولندا (وهي ليست “سويسرا الشرق”)، وبستالين وهتلر وهُما ليسا من دعاة الشفافية والديْمقراطية البرلَمانية وحقوق الإنسان.